للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي اليوم الرابع اجتمع الأشراف والكبراء في المساجد ورفعوا المصاحف وضجوا بالبكاء والدعاء، فكف الأتراك والمغاربة عن متابعة الاعتداء، واستمر العبيد في عدوانهم، وأهل مصر يدفعونهم بكل ما استطاعوا. وطلب الأتراك والمغاربة إلى الحاكم أن يأمر بوقف هذا الاعتداء على أهل مصر، وعلى أموالهم، خصوصًا وأن لهم بين المصريين كثيرًا من الأصهار والأقارب، ولهم في مصر كثير من الأملاك، فتظاهر بإجابة مطلبهم، ولكنه أوعز إلى العبيد أن يستمروا في القتال، وأن يتأهبوا لمدافعة الترك والمغاربة، فاشتدت المعارك بين الفريقين، ودافع الترك والمغاربة عن أهل مصر، ومزقوا جموع العبيد ونكلوا بهم، ثم هددوا الحاكم باقتحام القاهرة وحرقها، إذا لم يوضع حد لتلك الجرائم، فخشي الحاكم العاقبة، وأمر العبيد بالتفرق ولزوم السكينة، واعتذر لأشراف مصر وزعماء الترك والمغاربة عما وقع، وتنصل من كل تبعة فيه، وأصدر أمانًا لأهل مصر قرئ على المنابر. وسكنت تلك الفتنة الشنعاء بعد أن لبثت الفسطاط بضعة أسابيع مسرحا لمناظر مروعة من السفك والعبث والنهب، وأحرقت معظم شوارعها ومبانيها، وخربت معظم أسواقها، ونهبت، وسبي كثير من نسائها، واعتدى عليهن، وانتحر كثير منهن خشية العار، وتتبع المصريون أزواجهم وبناتهم وأمهاتهم وافتدوهن من الخاطفين) (١).وبأسلوب آخر، يؤكد حمزة هذه الحوادث، وأنها كانت انتقامًا لما حصل للدعاة من تنكيل وتمزيق، فيقول في رسالة (الرضى والتسليم): (لأنه سبحانه أنعم عليكم ما لم ينعم على من في الأدوار، وأظهر لكم من توحيده وعبادته، ما لم يظهره في عصر من الأعصار، وأعزكم في وقت عبده الهادي ما لم يعز أحدًا في الأقطار، ولم يكن لصاحب الشرطة والولاية والسيارات عليكم سبيل إلا بطريق الخير، ثم إن المنافقين قتلوا من إخوانكم ثلاثة أنفر، فأمر مولانا جل ذكره بقتل مائة رجل منهم، والذي قال في القرآن النفس بالنفس لا غير فلم تشكروه على ذلك، ولم تعبدوه حق ما يجب عليكم من عبادته، ولم تكن نياتكم خالصة لوحدانيته) (٢).

ويحاول عدد من الكتاب المعاصرين، الذين كتبوا عن الحاكم وعن الدروز، أن ينفوا عن الحاكم كل هذه الأمور، ويصوروها كأنها افتراءات من المؤرخين، أو يجعلوا لها تبريرًا لا يستسيغه عقل ولا منطق.

من هؤلاء الكتاب الدكتور أحمد شلبي، الذي حاول أن يصور أخبار شذوذ الحاكم واضطرابه، على أنه اتفاق بين المؤرخين، يأخذ الواحد قضية، فيسلم بها الآخر، وأن تاريخ الحاكم قد كتب أثر وفاته، وقد عادت السلطة إلى من اضطهدهم، الذين كان يهمهم أن يبرزوه معتوهًا أو مجنونًا أو مدعيًا للألوهية، ليصرفوا الناس عن البحث عن القتلة الذين قتلوا الحاكم؟!. بل يحاول الدكتور شلبي أن يبرر كل تصرفاته، حتى إنه يجعله مخلصًا لدولته كفؤا لحمل أعبائها، وهو في القمة من المفكرين في إنشائه دار الحكمة (٣).


(١) محمد عبد الله عنان – ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص ١١٩ – ١٢٠).
(٢) ((الرسالة الموسومة بالرضا والتسليم)).
(٣) د. أحمد شلبي ((التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية)) (ص ١١٦ – ١٢٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>