للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٣ - أما زعمهم أن دليل العقل والفطرة إنما هو من حكم الوهم والخيال وأن حكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات لا في العقليات ثم استشهادهم بالكليات وبالنفوس – فقد أجاب عنه شيخ الإسلام في مناسبات مختلفة، ومن ردوده عليهم قوله بأن هذا باطل من وجوه:

أحدها: أنه إذا جاز أن يكون في الفطرة حكمان بديهان، أحدهما مقبول والآخر مردود، كان هذا قدحا في مبادئ العلوم كلها، وحينئذ لا يوثق بحكم البديهة.

الثاني: أنه إذا جوز ذلك، فالتمييز بين النوعين: إما أن يكون بقضايا بديهية، أو نظرية مبنية على البديهية، وكلاهما باطل ... فإذا جاز أن تكون البديهيات مشتبهة: فيها حق وباطل، كانت النظريات المبنية عليها أولى بذلك، وحينئذ فلا يبقى علم يعرف به حق وباطل، وهذا جامع كل سفسطة ...

الثالث: أن قول القائل: إن الوهم يسلم للعقل قضايا بديهية تستلزم إثبات وجود موجود، تمتنع الإشارة الحسية إليه – ممنوع.

الرابع: أنه بتقدير التسليم تكون المقدمة جدلية؛ فإن الوهم إذا سلم للعقل مقدمة، لم ينتفع بتلك القضية، إلا أن تكون معلومة له بالبديهية الصحيحة، فإذا لم يكن له سبيل إلى هذا انسدت المعارف على العقل، وكان تسليم الوهم إنما يجعل القضية جدلية لا برهانية. وهذا وحده لا ينفع في العلوم البرهانية العقلية.

الخامس: أن قول القائل: إن الحكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات دون العقليات، إنما يصح إذا ثبت أن في الخارج موجودات لا يمكن أن تعرف بالحس بوجه من الوجوه، وهذا إنما يثبت إذا ثبت أن في الوجود الخارجي مالا يمكن الإشارة الحسية إليه. وهذا أول المسألة فإن المثبتين يقولون: ليس في الوجود الخارجي إلا ما يمكن الإشارة الحسية إليه، أو لا يعقل موجود في الخارج إلا كذلك ... السادس: أن يقال: إن أردتم بالعقليات ما يقوم بالقلب من العلوم العقلية الكلية ونحوها، فليس الكلام هنا في هذه، ونحن لا نقبل مجرد حكم الحس ولا الخيال في مثل هذه العلوم الكلية العقلية، وأن أردتم بالعقليات موجودات خارجة، لا يمكن الإشارة الحسية إليها، فلم قلتم: إن هذا موجود؟ فالنزاع في هذا، ونحن نقول: إن بطلان هذا معلوم بالبديهة" (١) ... إلى آخر الأوجه (٢).

ويلاحظ أن شيخ الإسلام بدأ من الوجه الخامس يناقش المسألة التي اعتمد عليها الرازي – ومن وافقه – في هذا الباب، حيث اتبعوا ابن سينا وغيره من الفلاسفة في مسألة الكليات الذهنية التي زعموا أنها موجودة في الخارج.

وهذه من المسائل التي تخبط بسببها المتكلمون في كثير من قضايا العقيدة ودلائلها. وهي من الباطل الذي لا حقيقة له، إذا ليس كل ما في الأذهان يكون موجودا في الأعيان، وهذه الكليات المطلقة توجد مطلقة في الأذهان فقط، أما في الأعيان فلا توجد إلا مقيدة، وقد سبقت الإشارة إلى هذا.


(١) ((درء التعارض)) (٦/ ١٥ - ١٧).
(٢) انظر: ((درء التعارض)) (٦/ ١٧ - ١٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>