للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكثير من النفاة يعظم ملاحدة الصوفية كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض، بل إن أحد أفضل المتكلمين من نفاة العلو "يعتقد في مثل هذا أنه كان من أفضل أهل الأرض، أو أفضلهم ويأخذ ورقة فيها شر مذهبه، يرقي بها المريض، كما يرقي المسلمون بفاتحة الكتاب، كما أخبرنا بذلك الثقاة، وهم يقدمون تلك الرقية على فاتحة الكتاب .... " (١).ويركز شيخ الإسلام على أن هؤلاء جميعا ينطلقون من تلك المناظر المشهورة التي جرت بين الجهم والسمنية وقد ذكرها الإمام أحمد (٢)، فالجهم لما احتج عليهم بالروح بأن الروح لا ترى ولا تسمع ولا تحس ولا تجس، طبق ذلك على الله تعالى، فقال: وكذلك هو موجود ولا يرى ولا يسمع ولا يوصف بصفة.

ومن هذه المناظرة انطلق المبطلون:

- نفاة الأسماء والصفات من الجهمية وغيرهم.

- ونفاة العلو القائلون بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه.

- والحلولية القائلون بأن الله في كل مكان.

فصاروا ينطلقون مما انطلق منه الجهم، والذين تفلسفوا كالرازي وغيره اعتمدوا على مثل هذا تماما وذلك حين احتجوا بالكليات التي لا توجد إلا في الأذهان، وبالنفوس المفارقة التي قال بها الفلاسفة وغيرهم. وهذا يبين ما بين أهل الباطل من ترابط، وكيف يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. وقد بين شيخ الإسلام الجواب الصحيح لهؤلاء السمنية، وكيف عدل الجهم عن ذلك، وشبه حجته بحجة الرازي على نفي العلو واحتجاجه بما يقوله الفلاسفة في المعقول والنفوس (٣).وكثيرا ما يعتمد هؤلاء المتكلمون على شبه الفلاسفة (٤).

٤ - أما دعوى أنه لو كان بديهيا لامتنع اتفاق الجمع العظيم على إنكاره، وهم من سوى الحنابلة والكرامية. فجوابه من وجوه:

أحدها: أن العكس هو الصحيح، فإن أمم الأرض جميعا يقولون بأن الله فوق العالم، والذين خالفوا ذلك فئات قليلة من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة والأشاعرة، تلقاه بعضهم عن بعض تقليدا. ومسألة العلو ليست من المسائل الصغيرة – التي قد تعرفها أمة أو أتباع نبي دون غيرهم – بل هي من المسائل الكبار المتعلقة بأصل التوحيد وهي مما ينفصل فيه أهل الإيمان عن الإلحاد، ولذلك اتفق الأنبياء جميعا عليها كما اتفقوا على التوحيد (٥).ولتواتر النصوص الواردة في إثبات العلو لم يستطع – الأشاعرة المتأخرون ولا غيرهم – إنكارها أو معارضتها، وإنما صاروا يعبرون عن المعاني التي يريدونها من نفي العلو بعبارات ابتدعوها، ويكون فيها اشتباه وإجمال، مثل أن يقولوا: إن الله ليس بمتحيز ولا في جهة، وغيرها من العبارات المحتملة للحق والباطل، وهم قصدوا بها رد الحق (٦). ولو كانت دعواهم كما صورهم الرازي أنه لم يخالف فيها الإ الحنابلة والكرامية لما تدسسوا إلى آرائهم وأقوالهم بمثل هذه الأساليب حين يتعاملون مع مئات النصوص الواردة المثبتة للعلو.


(١) انظر: ((درء التعارض)) (٦/ ١٧٠).
(٢) ((الرد على الزنادقة)) (ص: ٦٤ - ٥٧) – ضمن عقائد السلف، وخلاصتها أن جماعة من السمنية أرادوا أن يناظروا الجهم – وكان مشهورا بالخصومات والكلام – فاحتجوا عليه بأنه إذا لم ير إلهه ولم يسمعه ولم يشمه ولم يحسه – فهو غير موجود. فتحير الجهم وبقي أربعين يوما لا يدري من يعبد، ثم استدرك حجة النصارى في عيسى فأخذها، ورد على السمنية بالروح وأنها لا ترى ولا تسمع ولا تشم ....
(٣) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (١/ ٣١٨ - ٣٢٥)، و ((درء التعارض)) (٥/ ١٦٥ - ١٧٥)، و ((التسعينية)) (ص: ٣٢ - ٣٩).
(٤) انظر: مثالا على ذلك في ((نقض التأسيس)) – مطبوع (١/ ١٠٣ - ١٢١).
(٥) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (٢/ ٩).
(٦) انظر: ((نقض التأسيس)) – مطبوع – (٢/ ٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>