للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك أن الإنسان يهدف بتقديسه لله إلى حقيقة خارجة عن نطاق الأذهان، وإن كانت تعبر عنها الأذهان، فإنها في هذا التعبير تشير إلى ذات مستقلة قائمة بنفسها، ليست مجرد عوض من الأعراض أو لقب من الألقاب. ثم إن هذا التقديس ليس تقديسًا لذات أيا كانت، وإنما هو تقديس لذات لها صفات خاصة، وأهم مميزاتها أنها ليست مما يقع عليه حس الإنسان، ولا مما يدخل في دائرة مشاهداته الدنيوية، وإنما هي شيء غيبي لا يدركه إلا بعقله ووجدانه) (١).

وكيف تستطيع حواس الإِنسان المحدودة التي تدور في مجال محدود من مجالات الوجود المحسوس، أن تحيط بذات الله لو تجلي لها؟

وكيف تستقيم حياة الإِنسان، وهو يرى الله – عيانا – وهو قائم عليه؟

وكيف يكون سلوك الناس وهم يشهدون الله شهودًا صريحًا محسوسًا في كل زمان ومكان؟

إنها أسئلة كثيرة تقف فورًا عند طرح هذه الفكرة، التي لا يستسيغها عقل ولا يقبلها منطق، يقول أبو حامد الغزالي: (إن الحلول لا يمكن تصوره بين عبدين، فكيف يكون تصوره بين العبد وربه؟) (٢).

والحلول محال على الله لأسباب كثيرة، ذلك لأن القديم يختلف عن الحادث لاختلاف الماهية في كل منهما، وهذا الاختلاف يوجب استحالة حلول القديم في الحادث.

ثم إن الله واجب الوجود، وهذا الوصف ينفي الحلول لأنه في حالة حدوثه يصبح الحال تابعًا لما حل فيه، كما يصبح معلولاً لهذا المحل ومتأثرًا به، بل إنه ليصبح في غير الإِمكان تصور الحال إلا بتصور المحل، إذن ينتفي الحلول في هذه المرة كما استحال في الأولى.

وينقل الأستاذ أنور الجندي عن أبي حامد الغزالي قوله عن فكرة الاتحاد بين الله والإِنسان: (إن قول القائل: إن العبد صار هو الرب كلام يتناقض مع نفسه، بل ينبغي أن ينزه الرب سبحانه عن أن يجري اللسان في حقه بأمثال هذه المحاولات.

وطريقة البرهنة على فساد ذلك عند الغزالي، هي أن يورد ثلاثة احتمالات لمثل هذا الاتحاد المزعوم:

١ – إما أن تظل كل ذات من الذاتين موجودة.

٢ – وإما أن تفنى إحداهما وتبقى الأخرى.

٣ – وإما أن تفنيا معا.

وفي الحالة الأولى لا يكون هناك اتحاد، وفي الثانية كيف يمكن الزعم بأن هناك اتحادًا بين موجود ومعدوم؟ وفي الثالثة: لا يكون هناك محل للحديث عن الاتحاد، بل الأولى أن نتكلم عن الانعدام، والتناقض واضح في جميع هذه الاحتمالات. والعقل هو الذي يقرر وجود هذا التناقض، بعد أن جاء الشرع يبين فساد فكرة الاتحاد عند النصارى) (٣).

وفي القرآن الكريم مواقف كثيرة تكشف عظم هذا القول، واجتراءه على الله، يقول تعالى عن اليهود: وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون [البقرة: ٥٥].

ولهذا جاءت الآية الكريمة التالية كاشفة كفر اليهود والنصارى بما قالوا واعتقدوا في هذا الموضوع: وقالت اليهود عُزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، ذلك قولهم بأفواههم يُضاهئون قول الذين كفروا من قبل، قاتلهم الله أنى يؤفكون. اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون [التوبة:٣١ - ٣٢].


(١) محمد عبد الله دراز: ((الدين))، (ص ٤١).
(٢) أنور الجندي: ((الإِسلام والفلسفات القديمة))، (ص ١٣٨).
(٣) أنور الجندي: ((المؤامرة على الإسلام))، (ص ٥٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>