فهو – عليه السلام – الذي قال لآبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا [مريم: ٤٢].
وهو – عليه السلام – الذي قال لقومه يعيب عليهم ما لا يسمع ولا يبصر، ولا ينفع ولا يضر: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء: ٧٢ - ٧٣].
فاحتج على نفي إلهية ما سوى الله بكونهم لا يسمعون، ولا يبصرون، ولا ينفعون، ولا يضرون.
وهذه صفات ذاتية بالنظر إلى أصلها، فعلية بالنظر إلى تجدد آحادها ..
وهي حجة على المبتدعة من قول إبراهيم الخليل عليه السلام نفسه الذي استدلوا بقصته على مذهبهم .. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما ذكره الله عن إبراهيم – عليه السلام – يدل على أنه كان يثبت ما ينفونه عن الله؛ فإن إبراهيم قال: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء [إبراهيم: ٣٩]؛ والمراد: أنه يستجيب الدعاء؛ كما يقول المصلي: سمع الله لمن حمده. وإنما يسمع الدعاء ويستجيبه بعد وجوده لا قبل وجوده؛ كما قال تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة: ١]؛ فهي تجادل وتشتكي حال سمع الله تحاورهما وهذا يدل على أن سمعه كرؤيته المذكورة في قوله: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة: ١٠٥]، وقال: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: ١٤]؛ فهذه رؤية مستقلة ونظر مستقل. وقد تقدم أن المعدوم لا يرى ولا يسمع منفصلا عن الرائي السامع باتفاق العقلاء فإذا وجدت الأقوال والأعمال سمعها ورآها. والرؤية والسمع أمر وجودي لا بد له من موصوف يتصف به؛ فإذا كان هو الذي رآها وسمعها، امتنع أن يكون غيره هو المتصف بهذا السمع وهذه الرؤية، وأن تكون قائمة بغيره، فتعين قيام هذا السمع وهذه الرؤية به بعد أن خلقت الأعمال والأقوال. وهذا قطعي لا حيلة فيه" (١).
فالمقصود أن الخليل عليه السلام قد أثبت الصفات الاختيارية لله تعالى، ومنها السمع والبصر ..
وعلى هذا فلا حجة في قول المبتدعة إن ما ورد في قصة مناظرة إبراهيم عليه السلام لقومه؛ من قوله لما احتجب الكوكب: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: ٧٦] دليل على نفي قيام الصفات الاختيارية بذات الله تعالى – بزعمهم.
وتفنيد استدلالهم هذا سيأتي بشكل أوسع في المطلب الثاني التفصيلي – إن شاء الله.
٥ - إن الخليل عليه السلام لو قصد الاستدلال بالأعراض على نحو استدلال المتكلمين، لما قال: هَذَا رَبِّي أولاً، ولما فرق بين النجم والشمس والقمر، ولكان دليله على حدوث النجم يدل بعينه على حدوث سائر الأجسام؛ لأنه يكون قد أقام الحجة على الخصم بحدوث الأجسام حين أبطل ربوبية النجم ..
فلم أعاد الاستدلال عند رؤية القمر، ثم أعاده ثالثة عند رؤية الشمس؟
٦ - إن استدلال المبتدعة بقول الله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام: ٨٣] على تصحيح دليل الأعراض وحدوث الأجسام، وشرعيته؛ بزعمهم أن الله تعالى في هذه الآية قد صدق خليله عليه السلام في استدلاله بدليل الأعراض وحدوث الأجسام: مجانب للصواب.
فالله تعالى قال: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ، ولم يقل على نفسه ..
(١) ((رسالة في الصفات الاختيارية لابن تيمية – ضمن جامع الرسائل)) (٢/ ٥٤ - ٥٥).