للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا ما فقهه ترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما وأن أشد ما يفرق الأمة ويوقع بينها اختلاف هو الجهل بدينها فقد خلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم فجعل يحدث نفسه كيف تختلف هذه الأمة ودينها واحد؟ فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: كيف تختلف هذه ونبيها واحد وقبلتها واحدة ـ زاد سعيد وكتابها واحد ـ قال: فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين! إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيما أنزل وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيما نزل فيكون لكل قوم فيه رأي فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا فإذا اختلفوا اقتتلوا قال: فزجره عمر وانتهره عليّ فانصرف ابن عباس ونظر عمر فيما قال فعرفه فأرسل إليه وقال: أعد عليّ ما قلته فأعاد عليه فعرف عمر قوله وأعجبه. وما قاله ابن عباس رضي الله عنهما هو الحق فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قصد بها فلم يتعد ذلك فيها وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أو جهل فذهب كل إنسان مذهبا لا يذهب إليه الآخر وليس عندهم من الرسوخ في العلم ما يهديهم إلى الصواب أو يقف بهم دون اقتحام حمى المشكلات فلم يكن بد من الأخذ ببادئ الرأي أو التأويل بالترخص الذي لا يغني من الحق شيئا إذ لا دليل عليه من الشريعة فضلوا وأضلوا. (١) لذلك كان على المجتهد المتصدر للتعليم والفتيا العلم بعلوم الشريعة المتضمن العلم بكتاب الله تعالى وما يلحق به من معرفة أحكامه ومعانيه وفرضه وأدبه وإرشاده وإباحته وناسخه ومنسوخه وعامه وخاصه (٢) وعليه أيضا العلم بالسنة النبوية دراية ورواية (٣) وكذلك عليه العلم بالإجماع والقياس يقول الإمام الشافعي رحمه الله: على أن ليس لأحد أبدا أن يقول في شيء حل ولا حرم إلا من جهة العلم وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس ... (٤) فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا .. وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب من السلامة له إن شاء الله (٥).ومن العلم بعلوم الشريعة العلم بمقاصدها وقواعدها الكلية (٦)، ولقد نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك وأخبر أن الأمة ستبتلى بمن يدعي العلم وليس له حظ منه إلا حفظ النصوص دون فهم لمعانيها، واستيعاب لها أو معرفة بمقاصد الشريعة وقواعدها ومتى صدر ـ من هذا شأنه ـ وترأس حدثت الفتنة ووقعت الفرقة يقول النبي صلى الله عليه وسلم واصفا الخوارج: ((إن من ضئضئ هذا قوما يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)) (٧).


(١) انظر ((الاعتصام)) للشاطبي (٤٥٣).
(٢) انظر ((الرسالة)) للشافعي (٣٩ـ ٤١).
(٣) انظر ((روضة الناظر)) لابن قدامة (١٩٠) ((جامع بيان العلم)) لابن عبد البر (٢/ ١١٢٩).
(٤) ((الرسالة)) للشافعي (٣٩).
(٥) ((الرسالة)) للشافعي (٤١).
(٦) انظر ((الموافقات)) للشاطبي (١/ ٧٠) (٤/ ٤٧٧) ((روضة الناظر)) لابن قدامة (١٩٠).
(٧) رواه البخاري (٧٤٣٢)، ومسلم (١٠٦٤). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وانظر ((الموافقات)) للشاطبي (٤/ ٥٣٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>