للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالإيمان الشرعي هو بعينه الإيمان اللغوي، إلا أن الإيمان الشرعي خاص فيما أمرنا بالتصديق به من الأمور الشرعية، واللغوي عام. وهناك قول آخر ذهب إلى الأخذ به إمام الحرمين الجويني وهو أن الإيمان مركب من أمرين: تصديق قلبي وإقرار لساني حيث قال: والمؤمن على التحقيق من انطوى عقداً على المعرفة بصدق من أخبر عن صانع العالم وصفاته، وأنبيائه. فإن اعترف بلسانه بما عرف بجنانه فهو مؤمن ظاهراً وباطناً، وإن لم يعترف بلسانه معانداً لم ينفعه علم قلبه، وكان في حكم الله من الكافرين، كفر جحود وعناد. وكذلك كان فرعون وكل معاند جحود، وكذلك عرف أحبار اليهود بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصادفوا نعته في التوراة، فجحدوا بغياً وحسداً، فأصبحوا من الكافرين. ومن أظهر كلمة الإيمان، وأضمر الكفر فهو المنافق الذي يتبوأ الدرك الأسفل من النار (١).فهذا أحد أقطاب الأشاعرة ينفرد عنهم بهذا الرأي، الذي يوافق فيه أبا حنيفة ومن ذهب مذهبه،، في أن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، لا ينفك أحدهما عن الآخر، إلا في حال تعذر النطق باللسان فهو عندهم ركن يحتمل السقوط لعذر كالخرس ونحوه. وهذا الرأي أفردته بالبحث عند الكلام عن أبي حنيفة. ولكن الذي يهمنا هنا هو بيان المذهب المشهور عن الأشاعرة، والذي تبنته كتبهم المعتبرة وقررته، واستدلت له، وهو ما تقدم من أنه تصديق خاص. أما الإقرار اللساني والعمل بالجوارح فهم وإن لم يجعلوهما من الإيمان، إلا أنهم لم يهملوهما بل جعلوا لهما اعتبارهما في الوجود، فقد جعلوهما شرطا به يتحقق الإيمان، ويأثم تاركهما إثما كبيراً، لأنهما دليل على صدق الإيمان الباطن، ومدى تحققه. وفي بيان ذلك يقول عضد الدين الإيجيي بعد ذكر مذهبهم في الإيمان: ... والتلفظ بكلمتي الشهادتين مع القدرة عليه شرط، فمن أخل به فهو كافر مخلد في النار، ولا تنفعه المعرفة القلبية من غير إذعان وقبول، فإن من الكفار من كان يعرف الحق يقيناً، وكان إنكاره عناداً واستكباراً، قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: ١٤] (٢).فالعمل له عندهم مكانة كبيرة، فتاركه أو تارك شيء منه يكون مذنباً معرضاً للعقاب وهذا ما يجعلني أقول: إن ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -، وما سبقه إليه ابن حزم الظاهري من عد طائفة الأشاعرة من جملة المرجئة المناصرة لمذهب جهم في الإيمان (٣)، أمر لا يتناسب مع الواقع.


(١) الجويني، إمام الحرمين أبو المعالي عبدالملك، ((العقيدة النظامية)) بتحقيق محمد زاهد الكوثري، (ص: ٦٢)، ط مطبعة الأنوار، سنة ١٣٦٧هـ.
(٢) انظر: ((العقائد العضدية بشرح جلال الدين الدواني))، (٢/ ٢٨٥، ٢٨٦)، ط المطبعة العثمانية، سنة ١٣١٦هـ.
(٣) انظر: ((كتاب الإيمان)) لابن تيمية، (ص: ١٠)، ط المكتب الإسلامي، دمشق، وكتاب ((الفصل)) لابن حزم، (٢/ ١٨٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>