للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والإنصاف يدفعنا إلى القول بأن القوم لم يقصروا كثيراً في اعتبار العمل إلى حد يبرز إلزاقه هذا اللقب – الذي عرف بالذم والقبح عند أغلب الطوائف – بهم، وعدهم من جملة الجهمية المرجئة، إذ أن الخلاف في هذه المسألة بينهم وبين جماعة السلف خلاف لفظي، لأنه ينحصر في الشرطية التي قال بها الأشاعرة والشطرية التي قال بها السلف، والكل متفق على ضرورة الإتيان بالعمل والإقرار دون تفريط أو تقصير، والمقصر فيهما مؤاخذ على تقصيره ومعرض للعقاب، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له، وأن الإيمان المنجي من التخليد في النار هو التصديق القلبي الجازم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)) (١) , شريطة أن لا يكون قد ترك العمل استحلالاً وجحوداً وعناداً. فإذا القوم يخرجون الإقرار والعمل عن الركنية في الإيمان، مع التشدد في الإتيان بهما كشرط لتحقق الإيمان وكماله وكدليل ظاهري محسوس على وجود حقيقته في أعماق القلب. وقد أورد أدلة تؤيد ما ذهبوا إليه، فمما أوردوه كدليل على إخراج الإقرار عن الركنية قوله تعالى: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ [المجادلة: ٢٢]، وقوله تعالى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: ١٤]، وقوله سبحانه: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل: ١٠٦]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم ثبت قلبى على دينك)) (٢). حيث نسب فيها وفي نظائرها الغير محصورة الإيمان إلى القلب، فدل ذلك على أنه فعل القلب وهو التصديق (٢).ثم ذكر الإيجي بعد ذلك دليلهم على خروج العمل عن الإيمان حيث قال: "والعمل خارج عنه، لمجيئه مقروناً بالإيمان معطوفاً عليه في عدة مواضع من الكتاب، قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [الرعد: ٢٩] فإن الجزء لا يعطف على كله، فلا يقال: جاءني القوم وأفرادهم ولا عندي العشرة وآحادها)) (٣).غير أنهم قالوا إن الإيمان قد يطلق على العمل إطلاقا مجازيا (٤) وعلى ذلك جرى توجيههم للآيات والأحاديث التي ورد فيها إطلاق الإيمان على العمل ثم إنهم لما ذهبوا إلى القول بأن الإيمان هو التصديق، وكان ثمة التباس في أن التصديق هو المعرفة، فيوافقون بذلك الجهمية، أو أنه يختلف عنها فيكونون قد سلكوا طريقاً غير طريقهم، وقالوا بغير مذهبهم. ودفعاً لهذا التوهم في موافقة المعرفة للتصديق الذي قد يحمل بعض العلماء على إدخالهم في زمرة الجهمية القائلة بأن الإيمان هو المعرفة، كما فعله ابن تيمية وابن حزم – رحمهما الله -، فرقوا بين الأمرين بأن الأمرين المتطابقين ضدهما واحد، وضد المعرفة غير ضد التصديق، لأن ضد المعرفة النكارة وضد التصديق التكذيب، واختلاف الضدين دليل على اختلاف كل من المعرفة والتصديق، فبين المعنيين فرق شاسع، وأيضا فإن التصديق عبارة عن أمر كسبي للمصدق اختيار فيه، ولهذا يؤمر به ويثاب عليه، أما المعرفة فقد تحصل بلا كسب، وإذا فالمعرفة أعم من التصديق، فكل من صدق فقد عرف، وليس كل من عرف مصدقا. وفي هذا يقول التفتازاني في شرح المقاصد مفرقاً بين الأمرين:" ...


(١) رواه الترمذي (٢٥٩٣) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, وقال حديث حسن صحيح, وصححه الألباني, وقال في ((السلسلة)) (٢٤٥٠): صحيح على شرط الشيخين.
(٢) انظر: ((العقائد العضدية)) للإيجي، (٢/ ٢٨٦).
(٣) الإيجي، ((العقائد العضدية)) (٢/ ٢٨٦).
(٤) انظر: ((غاية المرام في علم الكلام)) للآمدي، (ص: ٣١١)، تحقيق حسن محمود عبداللطيف.

<<  <  ج: ص:  >  >>