ثم خشوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم فقالوا: لكنه دليل على أن قلبه كفرا.
فقلنا لهم: وتقطعون بصحة ما دل عليه هذا الدليل؟ فقالوا: لا.
وقالت الأشعرية: إن إبليس قد كفر ثم أعلن بعصيان الله تعالى في السجود لآدم عليه السلام، فإن إبليس من حينئذ لم يعرف أن الله تعالى حق ولا أنه خلقه من نار، ولا أنه خلق آدم من تراب وطين ولا عرف أن الله أمره بالسجود لآدم بعدها قط، ولا عرف بعد هذا قط أن الله كرم آدم.
ومن قولهم بأجمعهم إن إبليس لم يسأل الله قط أن ينظره إلى يوم البعث!
قلنا لهم: ويلكم؛ إن هذا تكذيب لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ورد للقرآن.
قالوا لنا: إن إبليس إنما قال كل ذلك هازئاً مستهزئاً بلا معرفة ولا اعتقاد، كان هذا أشنع كفر وأبرده بعد كفر الغالية من الرافضة.
وقالوا: إن إبليس لم يكفر بمعصيته الله في ترك السجود لآدم ولا بقوله عن آدم أنا خير منه، وإنما كفر بجحد لله تعالى كان في قلبه.
قال أبو محمد: هذا خلاف للقرآن وتكهن لا يعرف صحته إلا من حدثه به إبليس عن نفسه، على أن الشيخ غير ثقة فيما يحدث به.
وقالت الأشعرية أيضا: إن فرعون لم يعرف قط أن موسى أنما جاء بتلك الآيات من عند الله حقا، وأن اليهود والنصارى الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرفوا قط أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا ولا عرفوا أنه مكتوب في التوراة والإنجيل، وأن من عرف ذلك منهم وكتمه وتمادى على إعلان الكفر ومحاربة النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر ومن بني قريظة وغيرهم فإنهم كانوا مؤمنين عند الله عز وجل أولياء لله من أهل الجنة.
فقلنا لهم: ويلكم هذا تكذيب لله عز وجل إذ يقول يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ [الأعراف: ١٥٧] ويَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [البقرة: ١٤٦] فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام: ٣٣] فقالوا لنا: معنى أنهم وجدوا خطأ مكتوبا عندهم لم يفهموا معناه ولا دروا ما هو، ونعم عرفوا صورته فقط ودروا أنه محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب كما يعرف الإنسان جاره فقط.
فكان هذا كفراً بارداً أو تحريفاً لكلام الله تعالى عن مواضعه ومكابرة سمجة وحماقة ودفعا للضرورة.
وقد تقصينا الرد على أهل هذه المقالة الملعونة في كتاب لنا اسمه: كتاب (اليقين في النقد على الملحدين المحتجين عن إبليس اللعين وسائر الكافرين).
وكان لشيخهم الأشعري في إعجاز القرآن قولان: أحدهما كما يقول المسلمون أنه معجز النظم، والآخر: إنما هو المعجز الذي لم يفارق الله عز وجل قط، والذي لم يزل غير مخلوق ولا نزل إلينا ولا سمعناه قط ولا يسمعه جبريل ولا محمد عليهما السلام قط، وأما الذي يقرأ في المصاحف ونسمعه فليس معجزا بل مقدور على مثله.
وهذا كفر صريح وخلاف لله تعالى ولجميع أهل الإسلام.
وقال كبيرهم وهو محمد بن الطيب الباقلاني: إن لله تعالى خمسة عشر صفة كلها قديمة لم تزل مع الله تعالى، وكلها غير الله وخلاف الله تعالى, كل واحدة منهن غير الأخرى منهن، وخلاف لسائرها وأن الله تعالى غيرهن وخلافهن "الفصل ٤/ ٢٠٦ - ٢٠٧ط".
هذا والله أعظم من قول النصارى وأدخل في الكفر والشرك، لأن النصارى لم يجعلوا مع الله تعالى إلا اثنين هو ثالثهما. وهؤلاء جعلوا معه تعالى خمسة عشر هو السادس عشر لهم.
المصدر:موقف ابن حزم من المذهب الأشعري لعبد الرحمن دمشقية - ص ٥٣