للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإذا نتبين مما تقدم أن المسألة ذات شقين، أحدهما: عدم جواز الاستثناء في الإيمان الناجز، لأن ذلك يعتبر شكاً في الإيمان والشاك في إيمانه لا يعتبر مؤمناً، فإذا سئل أمؤمن هو؟ جزم بالإيجاب لا بالتعليق بالمشيئة.

وثانيهما: جواز الاستثناء باعتبار واحد فقط، وهو أن الإيمان المعتبر في النجاة من النار ودخول الجنة هو ما يختم به للإنسان فيستثنى من أجل أنه لا يدري ما يوافي الله به من الإيمان لأن خاتمته مجهولة مع رجائه أن تكون حسنة. وهذا هو المذهب المشهور عن الأشاعرة. كما ذكر البغدادي أنهم مختلفون في ذلك وبين اختلافهم بقوله: "والقائلون بأن الإيمان هو التصديق من أصحاب الحديث مختلفون في الاستثناء فيه فمنهم من يقول به، وهو اختيار شيخنا أبي سهل محمد بن سليمان الصعلوكي، وأبي بكر محمد بن الحسين فورك، ومنهم من ينكره وهذا اختيار جماعة من شيوخ عصرنا، منهم أبو عبدالله بن مجاهد، والقاضي أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفرائيني" (١).ووجهة المجيزين ما تقدم ذكره، أما المانعون منه فلا دليل لهم إلا أنهم يعتبرون ذلك شكاً، والشك في الإيمان غير جائز. وينضم إلى أدلة المجيزين لهذه المسألة ما تقدم ذكره عند بيان مذهب السلف من مثله قوله عليه السلام عند زيارة القبور: ((إنا إن شاء الله بكم لاحقون)) (٢) , وقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: ٢٧] حيث كان الاستثناء في أمر مقطوع به.

المصدر:الإيمان بين السلف والمتكلمين لأحمد الغامدي - ص ١٧٦

فيمن قال بوجوب الاستثناءإن أشهر من ذهب للقول بوجوب الاستثناء في الإيمان وانتصر له هم الكلابية والأشعرية (٣) حيث أن الإيمان عندهم هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً وكافراً باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به، والإيمان الذي يعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان، كالصلاة التي يفسدها صاحبها قبل الكمال، وكالصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وصاحب هذا هو عند الله كافر لعلمه بما يموت عليه، وهذا المأخذ هو مأخذ كثير من المتأخرين ممن يريد أن ينصر ما اشتهر عن أهل السنة من قولهم أنا مؤمن إن شاء الله (٤) فحسب هؤلاء أن استثناء السلف إنما هو باعتبار الموافاة.

ومقصودهم بالموافاة: أن العبد يأتي موافياً به بأن يبقى عليه إلى الوفاة، فيكون متصفاً به إلى آخر حياته، إذ إن الإيمان لا يكون نافعاً معتبراً منجياً لصاحبه إلا إذا مات عليه. فلما كان هذا الإيمان هو المعتبر في النجاة صار هؤلاء إلى الاستثناء في الإيمان بهذا الاعتبار، فإذا قيل لأحدهم: أمؤمن أنت؟ قال: إن شاء الله وهو في ربطه هذا الإيمان بالمشيئة يلحظ أنه قد لا يموت على هذا الإيمان ولا يثبت عليه إلى الوفاة (٥).


(١) البغدادي، أبو منصور عبدالقاهر بن ظاهر التميمي، ((أصول الدين)) (ص: ٢٥٣)، ط١ مطبعة الدولة باستانبول، سنة ١٣٤٦هـ - ١٩٢٨م.
(٢) رواه مسلم (٢٤٩) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٣) انظر ((المسامرة شرح المسايرة)) (ص: ٢٨٣)، و ((إتحاف السادة المتقين)) (٢/ ٢٨٢)، و ((الروضة البهية)) (ص: ٨).
(٤) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٣٠).
(٥) ((المسامرة)) (ص: ٣٨٣) وانظر ((المعتمد)) للقاضي أبي يعلى (ص: ١٩٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>