للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم حمل هؤلاء جميع الآثار الواردة عن السلف في الاستثناء على هذا المحمل الذي هو أبعد ما يكون عن مراد السلف، ومقصودهم بالاستثناء. يقول الجويني: "فإن قيل: قد أثر عن سلفكم ربط الإيمان بالمشيئة، وكان إذا سئل الواحد منهم عن إيمانه قال إنه مؤمن إن شاء الله، فما محصول ذلك؟ قلنا: الإيمان ثابت في الحال قطعاً لا شك فيه ولكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة إيمان الموافاة فاعتنى السلف به وقرنوه بالمشيئة، ولم يقصدوا التشكك في الإيمان الناجز" (١).فهكذا توهم هؤلاء أن ذلك الذي قالوا هو مراد السلف في الاستثناء بالإيمان بينما الواقع أن هذا الذي نسبوه للسلف ليس مراداً لهم ولا أحد منهم استثنى في إيمانه لهذا الاعتبار، كما قال شيخ الإسلام: "وأما الموافاة فما علمت أحداً من السلف علل بها الاستثناء، ولكن كثيراً من المتأخرين يعلل بها من أصحاب الحديث من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم، كما يعلل بها نظارهم كأبي الحسن الأشعري وأكثر أصحابه، لكن ليس هذا قول سلف أصحاب الحديث" (٢).

فالسلف كانوا يستثنون في الإيمان وهذا متواتر عنهم لكن ليس في هؤلاء من قال: أنا أستثني لأجل الموافاة، وأن الإيمان إنما هو اسم لما يوافي به العبد ربه، بل صرح أئمة هؤلاء بأن الاستثناء إنما هو لأن الإيمان يتضمن فعل الواجبات فلا يشهدون لأنفسهم بذلك كما لا يشهدون لها بالبر والتقوى، فإن ذلك مما لا يعلمونه وهو تزكية لأنفسهم بلا علم، وقد سبق النقل عنهم من أقوالهم وألفاظهم ما يدل على ذلك ويؤيده. وأما سبب غلط هؤلاء في نسبة هذا القول للسلف مع أنهم لم يقولوه، فعائد إلى أنه: "لما اشتهر عند هؤلاء أن السلف يستثنون في الإيمان ورأوا أن هذا لا يمكن إلا إذا جعل الإيمان هو ما يموت العبد عليه، وهو ما يوافي به العبد ربه، ظنوا أن الإيمان عند السلف هو هذا فصاروا يحكون هذا عن السلف وهذا القول لم يقل به أحد من السلف ولكن هؤلاء حكوه عنهم بحسب ظنهم لما رأوا أن قولهم لا يتوجه إلا على هذا الأصل وهم يدعون أن ما نصروه من أصل جهم في الإيمان هو قول المحققين والنظار من أصحاب الحديث، ومثل هذا يوجد كثيراً في مذاهب السلف التي خالفها بعض النظار وأظهر حجته في ذلك ولم يعرف حقيقة قول السلف فيقول من عرف حجة هؤلاء دون السلف أو من يعظمهم لما يراه من تميزهم عليه: هذا قول المحققين، وقال المحققون، ويكون ذلك من الأقوال الباطلة، المخالفة للعقل مع الشرع وهذا كثيراً ما يوجد في كلام بعض المبتدعين وبعض الملحدين. ومن آتاه الله علماً وإيماناً علم أنه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق إلا ما هو دون تحقيق السلف لا في العلم ولا في العمل, ومن كان له خبرة بالنظريات والعقليات وبالعمليات، علم أن مذهب الصحابة دائماً أرجح من قول من بعدهم وأنه لا يبتدع أحد قولاً في الإسلام إلا كان خطأ وكان الصواب قد سبق إليه من قبله" (٣).

والمقصود: أن هؤلاء غلطوا على السلف من جهة حيث نسبوا إليهم شيئاً لم يقولوه، وضلوا عن الحق من جهة أخرى حيث أوجبوا الاستثناء في الإيمان على هذا الاعتبار الذي ابتدعوه.


(١) ((الإرشاد)) للجويني (ص: ٣٣٦).
(٢) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٣٩).
(٣) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٣٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>