للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد احتج هؤلاء لقولهم ببعض الشبه والدلائل أذكر فيما يلي أهمها مع التنبيه على غلطهم فيما احتجوا به. فممن ذهب إلى هذا القول واحتج له القاضي أبو يعلى فقد قال في كتابه (المعتمد في أصول الدين): "ولا يجوز أن يقول: أنا مؤمن حقاً بل يجب أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله خلافاً للمعتزلة في قولهم لا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله بل يجب أن يقول أنا مؤمن حقاً والدلالة عليه إجماع السلف، فروى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال: (من زعم أنه مؤمن فهو كافر) (١) , وعن الحسن (أن رجلاً قال عند عبدالله بن مسعود إني مؤمن، فقيل لابن مسعود إن هذا يزعم أنه مؤمن، قال: فسلوه أفي الجنة هو أوفي النار، فسألوه فقال: الله أعلم، فقال عبدالله فهلا وكلت الأولى كما وكلت الآخرة) (٢).

وعن علقمة أنه كان بينه وبين رجل من الخوارج كلام فقال له علقمة: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب: ٥٨]. (فقال له الرجل: ومؤمن أنت؟ قال: أرجو) (٣).ولأن المؤمن الحقيقي، والمؤمن عند الله – عز وجل – هو الذي يكون من أهل الجنة ولا يكون كذلك إلا بعد أن يوافي بالإيمان باتفاق، والواحد منا لا يعلم أنه يوافي بالإيمان أم بالكفر وإذا لم يعلم ذلك لم يعلم إنه مؤمن حقاً" (٤).

فخلص لهم من هذا دليلان:

الأول: بعض الآثار الواردة عن السلف ظنوا أن فيها حجة لهم.

الثاني: قولهم إن الإيمان الحقيقي المنجي هو الإيمان الذي يوافي به العبد ربه وعلى هذا يجب أن يستثنى شكاً منه في المستقبل.

قلت: أما استدلالهم الأول ببعض الآثار الواردة عن السلف في ذلك فالجواب عنه إجمالاً قد تقدم حيث ذكرت فيما سبق بالنقل عن شيخ الإسلام أن هذا لم يثبت عن أحد من السلف فضلاً عن أن يكونوا مجمعين عليه.

ثم إن الآثار التي ذكرها القاضي محتجاً بها على وجوب الاستثناء في الإيمان باعتبار الموافاة لا حجة له فيها إذ المراد بالإيمان فيها الإيمان التام الكامل الذي وصف الله أهله بأنهم هم المؤمنون حقاً لكونهم استوفوا أعمال الإيمان بصدق وإخلاص وتنافسوا في مستحباته فإنه إذا قصد بالإيمان هذا القدر فالاستثناء في الإيمان واجب بعداً عن التزكية ومجانبة لادعاء الكمال. لهذا قال عمر من قال أنا مؤمن – أي كامل الإيمان – فهو كافر. وليس هذا من الكفر الاعتقادي المخرج من الملة بل من الكفر العملي الذي ينقص الإيمان ولا يخرج من الملة كقوله –صلى الله عليه وسلم- ((اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت)) (٥).

فيكون مراد عمر رضي الله عنه بقوله: من قال أنا مؤمن فهو كافر أي من ادعى لنفسه كمال الإيمان واستيفاء واجباته وأنه من الذين قال الله فيهم:

أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: ٤].


(١) رواه أبوبكر بن الخلال في ((السنة)) (٣/ ٣٧١) , وابن بطة في ((الإبانة)) (٣/ ٢٠٣).
(٢) رواه الآجري في ((الشريعة)) (١/ ١٣٣) , وابن بطة في ((السنة)) (٣/ ٢٠٥) , وأبوبكر بن الخلال في ((السنة)) (٣/ ٤٢٩).
(٣) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (٦/ ١٦٠) , والآجري في ((الشريعة)) (١/ ١٣٣).
(٤) ((المعتمد)) (ص: ١٩٠)، قلت: وللقاضي أبي يعلى في هذه المسألة قول آخر يوافق ما جاء عن السلف، انظره في كتاب ((الإيمان)) له (ص: ٤٢٨).
(٥) رواه مسلم (٦٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>