للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا بشأن حكم الصغيرة عند الأشاعرة أما حكم مرتكبي الكبائر، فالكلام في ذلك ذو شقين أحدهما الكلام في صفته وتسميته في الدنيا، والثاني الكلام في حكمه الأخروي. فأما تسميته وحكمه الدنيوي فقد ذهبوا إلى القول بأن مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق، لأن ارتكاب الكبيرة لا يذهب إيمانه كما ذهب إليه المعتزلة وإنما يؤثر فيه بالنقصان، فيسلب منه كمال الإيمان، ويقيد بما اتصف به من معصية وفسق، فيقال مؤمن فاسق. وفي هذا يقول أبو بكر الباقلاني في (التمهيد): فإن قال قائل: فخبروني عن الفاسق الملي هل تسمونه مؤمناً بإيمانه الذي فيه، وهل تقولون إن فسقه لا يضادّ إيمانه؟ قيل له: أجل، فإن قال: فلم قلتم إن الفسق الذي ليس بجهل بالله لا يضاد الإيمان؟ قيل له: لأن الشيئين إنما يتضادان في محل واحد، وقد علمنا أن ما يوجد بالجوارح لا يجوز أن ينفى علماً وتصديقاً، يوجد بالقلب فثبت أنه غير مضاد للعلم بالله والتصديق له. والدليل على ذلك أنه قد يعزم على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم بقلبه من لا ينفي عزمه على ذلك معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، وتصديقه له، وكذلك حكم القول في العزم على معصية الله عز وجل، وأنه غير مضاد لمعرفته والعلم به، والتصديق له هو الإيمان لا غير. فصح بذلك اجتماع الفسق الذي ليس بكفر مع الإيمان وأنهما غير متضادين. فإن قال: ولم قلتم إنه يجب أن يسمى الفاسق الملي بما فيه من الإيمان مؤمناً؟ قيل له: لأن أهل اللغة إنما يشتقون هذا الاسم للمسمى به من وجود الإيمان به، فلما كان الإيمان موجوداً بالفاسق الذي وصفنا حاله، وجب أن يسمى مؤمناً كما أنه لما لم يضاد ما فيه من الإيمان فسقه الذي ليس بكفر وجب أن يسمى به فاسقاً. وأهل اللغة متفقون على أن اجتماع الوصفين المختلفين لا يوجب منع اشتقاق الأسماء منهما، ومن أحدهما، فوجب بذلك ما قلناه (١).

فمما تقدم يتبين لنا الرأي ودليله، وذلك الدليل الذي ساقة الباقلاني ذو شقين، أحدهما عقلي والآخر لغوي.

أما العقلي: فيقول إن الفسق لا يضاد الإيمان، لأن التضاد بين الشيئين لا يكون إلا إذا وجدا في محل واحد، والمعصية التي بها يكون الفسق محلها الجوارح، والإيمان عندهم محله القلب فقط. وما يوجد بالجوارح لا يجوز أن ينفي ما يوجد بالقلب، لأنه غير مضاد له، إذ قد يعص الله تعالى من هو مصدق بقلبه بالله ورسله، فصح بذلك اجتماع الفسق والإيمان.

وأما اللغوي: فهو أن أهل اللغة يشتقون تسمية الشيء من صفة توجد فيه، والإيمان الذي هو التصديق القلبي موجود في الفاسق الذي عصى الله تعالى بعمل قبيح صدر عن الجوارح غير مضاد للإيمان.


(١) الباقلاني، أبو بكر محمد بن الطيب، كتاب ((التمهيد))، (ص: ٣٤٩ – ٣٥٠)، نشر المكتبة الشرقية، بيروت، سنة ١٩٥٧م.

<<  <  ج: ص:  >  >>