للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذان الدليلان – ما هو واضح – مبنيان على مذهبهم القائل بأن الإيمان هو التصديق القلبي بالله وملائكته وكتبه ورسله، الذي تقدم بيانه، وأن أعمال الجوارح إنما هي ثمرات ذلك التصديق القلبي، وليست ركناً فيه، ولا جزءاً في مفهومه. وهم موافقون للسلف في إطلاقهم هذه الصفة على مرتكب الذنب الكبير وقد تقدم استدلالهم على هذه التسمية بمثل قوله تعالى في شأن حاطب بن أبي بلتعة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء ... [الممتحنة: ١]. فقط خاطبه باسم الإيمان مع ما ارتكبه من عظيم الذنب بشأن الله ورسوله في قصته المشهورة ومثل قوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات: ٩] فسماهم مؤمنين مع اقتتالهم، وغير ذلك من الآيات التي تطلق على فاعل الذنب الكبير اسم المؤمن، وذلك أيضاً دليل للأشاعرة لأنهم يرون نفس الرأي. أما الحكم الأخروي لمرتكب الكبيرة، عند الأشاعرة، فإنهم أيضاً يوافقون السلف فيه. حيث فوضوا أمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه بعدله وإن شاء غفر له بفضله وذلك إذا مات المذنب من غير توبة، وعن سابق إصرار وفي ذلك يقول البغدادي من الأشاعرة: " ... فأما أصحاب الذنوب من المسلمين إذا ماتوا قبل التوبة فمنهم من يغفر الله عز وجل له قبل تعذيب أهل العذاب، ومنهم من يعذبه في النار مدة ثم يغفر له ويرده إلى الجنة برحمته" (١).ويقول الشيخ عبدالسلام بن إبراهيم اللقاني في شرح (جوهرة التوحيد). " ... فذهب أهل الحق إلى أنه لا يقطع له بعفو ولا عقاب، بل هو في مشيئة الله سبحانه وتعالى، وعلى تقدير وقوع العقاب عدلاً منه سبحانه وتعالى يقطع له بعدم الخلود في النار .... " (٢). ولا نعلم خلافاً للأشاعرة في هذه المسألة. ويتبين لنا مما تقدم أن معتقد القوم في مرتكب الكبيرة أنه لا يقطع عليه بحكم ما، بل يفوض أمره إلى الله سبحانه وتعالى، إن شاء غفر له ذنوبه ابتداء من غير سابق تعذيب فيدخله الجنة بفضله ورحمته، وإن شاء أدخله النار وعذبه سابق تعذيب فيدخله الجنة بفضله ورحمته، وإن شاء أدخله النار وعذبه بقدر جرمه ثم أخرجه منها وأدخله الجنة. وكل هذا يستندون فيه إلى أدلة شرعية منها ما يدل على إمكان غفران الذنوب، ومنها ما يدل على عدم تخليد المذنب المؤمن إذا هو أدخل النار لمعاقبته التي تتم بعدل من الله سبحانه وتعالى.

فمن النصوص التي استدلوا بها على غفران الذنوب ما عدا الشرك قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: ٤٨] وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر: ٥٣] إلى غير ذلك مما استدلوا به على هذه المسألة مما ورد في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه مما تقدم ذكره في بيان مذهب السلف، فلا داعي لتكراره. ثم إنهم استدلوا على هذه المسألة أيضا بأن العقاب حقه تعالى فيحسن إسقاطه مع أن فيه نفعا للعبد من غير ضرر لأحد (٣). أما دليلهم على أن من عذب من العصاة لا يخلد في النار فهو أيضاً عين ما استدل به السلف من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)) (٤) , قالوا: وليس ذلك استقامة الكلام: خاصاً بما قبل دخول النار بل قد يكون بعده. وهي مسألة انقطاع العذاب أو بدونه وهي مسألة العفو التام (٥). من أدلتهم أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)) (٦) , إلى غير ذلك من الأدلة.

المصدر:الإيمان بين السلف والمتكلمين لأحمد الغامدي - ص ١٧٠


(١) البغدادي، أبو منصور عبدالقاهر بن طاهر، ((أصول الدين))، (ص: ٢٤٢)، ط١ مطبعة الدولة، استانبول، سنة ١٣٤٦هـ - ١٩٢٨م.
(٢) انظر: ((إتحاف المريد بجوهرة التوحيد))، تعليق الشيخ محمد يوسف الشيخ، (ص: ١٧٣)، ط سنة ١٣٧٩هـ.
(٣) عبدالسلام بن إبراهيم اللقاني، ((إتحاف المريد بجوهرة التوحيد))، تعليق الشيخ محمد يوسف الشيخ، (ص: ١٧٢).
(٤) رواه الحاكم (٤/ ٢٧٩) من حديث أبي طلحة الأنصاري, وقال صحيح الإسناد, ورواه مسلم (٢٧) من حديث عثمان رضي الله عنه بلفظ: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة).
(٥) ((إتحاف المريد بجوهرة التوحيد))، تعليق الشيخ محمد يوسف الشيخ، (ص: ١٧٤).
(٦) رواه الترمذي (٢٥٩٣) , من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, وقال حديث حسن صحيح, وصححه الألباني, وقال في ((السلسلة)) (٢٤٥٠): صحيح على شرط الشيخين.

<<  <  ج: ص:  >  >>