للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأصل هذا النزاع كان بين المعتزلة والأشاعرة، فالأولون أثبتوا العلل والحكم القائمة بالخلق ولا يثبتون ما قام بالخالق وجروا على عادتهم في الإيجاب على الله تعالى بعقولهم، فشبهوا أفعاله بأفعال خلقه، فقابلهم الأشاعرة وغلوا في نفي ذلك، فنفوا مع الباطل حقاً. وسأعرض الشبه الحاملة لهم على نفي الحكم التي يسمونها أغراضاً إن شاء الله، فمنها:-الشبهة الأولى: (١)

قالوا: لو كان الباري فاعلاً لغرض لكان في ذاته مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض، سواء قيل إن الغرض عائد حكمه إليه أو إلى خلقه. الجواب: (٢) وهو من وجهين:

الأول: من باب المعارضة: إن الأشاعرة يقولون: إن الأفعال حادثة بعد أن لم تكن، ولا يقولون إن الله كان ناقصاً قبل حدوثها، إذ أنه سبحانه فاعل بالقوة – أي أن الفعل ممكن له – فيقال لهم: ينبغي على قولكم هذا أن تحذوا بالحكمة حذو الفعل، فإن الله متصف بالحكمة أزلاً كسائر صفات ذاته، ثم تقع الأشياء حسب ما تقتضيه حكمته، وعليه فليس عدم كل شيء نقصاً، بل الصحيح أن يقال: حدوث ما لا تقتضيه الحكمة هو النقص كما أن عدم وجود ما تقتضي الحكمة وجوده هو نقص أيضاً.

الثاني: من جهة حل الشبهة: وهو أن قد أثبتنا الحكمة صفة لله تعالى، والصفات كلها الذاتية والفعلية قائمة بذات الله تعالى، فالحكمة إذن ليست منفكة عن الذات حتى يقال إنه صار مستكملاً بغيره، وإنما هي صفة قائمة به – وعليه فلا إشكال إذا قيل أنه كمل بحكمته، إذ هو نظير قولنا كمل بذاته وصفاته.

الشبهة الثانية: قال الباقلاني: "لو كان تعالى فاعلاً للعالم لعلة أوجبته لم تخل تلك العلة من أن تكون قديمة أو محدثة، فإن كانت قديمة وجب قدم العالم لقدم علته وألا يكون بين العلة القديمة وبين وجود العالم إلا مقدار زمان الإيجاد، وذلك يوجب حدوث القديم، لأن ما لم يكن قبل المحدوث إلا بزمان أو أزمنة محدودة وجب حدوثه، لأن فائدة توقيت وجود الشيء هو أنه كان معدوماً قبل تلك الحال، فلما لم يجز حدوث القديم لم يجز أن يكون العالم محدثاً لعلة قديمة. وإن كانت تلك العلة محدثة فلا يخلو محدثها أن يكون أحدثها لعلة، أو لا لعلة، فإن كانت محدثة لعلة وعلتها محدثة وجب أن تكون علة العلة محدثة لعلة أخرى وكذلك أبداً إلى غير غاية، وذلك يحيل وجود العالم جملة لتعلقه بما يستحيل فعله وخروجه إلى الوجود. وإن كانت العلة والخاطر والداعي والباعث والمحرك محدثة لا لعلة، وكانت بالوجود لما وجدت من فاعلها أولى منها بالعدم لا لعلة، وكان فاعلها حكيماً غير سفيه جاز حدوث سائر الحوادث منه لا لعلة وكان حكيماً غير سفيه ... " (٣)

والجواب من وجوه: الوجه الأول: - قوله "فإن كانت قديمة وجب قدم العالم لقدم علته" ينتقض بصفة الإرادة، فالأشعرية يقرون بقدمها مع قولهم بحدوث المراد، فلما لم يلزم من القول بقدم الإرادة قدم المراد لم يلزم من قدم الحكمة قدم الفعل – أي المفعول - (٤).


(١) انظر إيراد هذه الشبهة في ((التمهيد)) للباقلاني (ص: ٥٠) و ((المواقف في علم الكلام)) للإيجي (ص: ٣٣١) و ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (٤/ ٣٠١).
(٢) انظر: ((رسالة الإرادة والأمر لشيخ الإسلام ضمن مجموعة الرسائل الكبرى)) (١/ ٣٧٩ - ٣٨١). ((وشفاء العليل)) لابن القيم (ص: ٣٤٩).
(٣) ((تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل)) للباقلاني (ص: ٥١ - ٥٢).
(٤) انظر ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: ٣٥٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>