للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوجه الثاني: وهو عن لزوم التسلسل إذا قيل إن العلة محدثة، وهي محدثة لعلة وهكذا ... وجوابه، إن هذا التسلسل الصحيح أنه في المستقبل، لأن الحكمة من الفعل تحصل عقبه وإن كانت مقدمة عليه في التصور، ولا شك أن التسلسل في الآثار المستقبلة جائز بل واقع كما هو الحال في نعيم الجنة وعذاب النار الدائمين، وهذا مما يسلم به الأشعرية فيلزم أن يسلموا به في الحكمة، وعليه فقولهم: "وجب أن تكون علة العلة محدثة لعلة أخرى ... " قول ممنوع، وهو وارد على تعليل العلل، أي إذا فعل فعلاً لعلة فما هي علة هذه العلة وهكذا ... فإنا نقول: الحكمة التي ذكروها هي التي يعود حكمها إلى الرب، وكل الحكم تعود على حكمة لا حكمة فوقها "فالمفعول لأجله مراد للفاعل محبوب له، والمراد المحبوب تارة يكون مراداً لنفسه وتارة يكون مراداً لغيره، والمراد لغيره لابد أن ينتهي إلى المراد لنفسه قطعاً للتسلسل، وهذا كما نقوله في خلقه بالأسباب: إنه يخلق كذا بسبب كذا، وكذا بسبب كذا حتى ينتهي الأمر إلى أسباب لا سبب لها سوى مشيئة الرب، فكذلك يخلق لحكمة، وتلك الحكمة لحكمة حتى ينتهي الأمر إلى حكمة لا حكمة فوقها" (١).

الوجه الثالث:- وهو عن لزوم القول بوجود محدث أحدث ابتداء لا لعلة، ومن ثم لزوم نفي العلل كلها؛ وهو في قوله: "وإن كانت العلة والخاطر والداعي ... إلخ" فالجواب: إنا قد قدمنا في الوجه الثاني أن الحكم تنتهي إلى حكمة لا حكمة فوقها، ولم نسلم بأنه لا توجد حكمة تعود إليها كل الحكم، ولذلك فهذا الاحتمال – وهو قوله: "محدثة لا لعلة" – احتمال غير وارد ولا نسلم به، مع ملاحظة أن استعمال ما جاء به الشرع من لفظ الحكمة هو الصحيح، ولا يجوز التعبير بما يوهم باطلاً كالمحرك والباعث والخاطر ...

ثم إن قوله: "جاز حدوث سائر الحوادث منه لا لعلة" فكلام مبني على توهم وجود فعل خلا من الحكمة وقد منعناه، مع ملاحظة أن دعواه أعم من دليله، فهو قد جوز خلو الأفعال من الحكم بناءً على نفي علة العلة الأولى للفعل، فما ذكره فيه سلب العموم لا عموم السلب، كيف وقد بينا سابقاً أن الحكم كلها تعود إلى حكمة لا حكمة فوقها فدليله من أساسه منهار، ومع انهياره فهو لا يدل على ما ادعاه. الشبهة الثالثة (٢):

قالوا: لو كان شيء من الممكنات غرضاً لفعل الباري لما كان ذلك الممكن حاصلاً بخلق الله ابتداءً، وإنما بتوسط الغرض، والغرض هو إيصال اللذة إلى البعد أو دفع الألم عنه، وقد علم إجماعاً أن الله قادر على إيجادها ابتداءً فيكون إثبات هذه الوسائط عبثاً ينزه الله عنه.


(١) ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: ٣٥٣)، وانظر ((منهاج السنة النبوية)) (١/ ١٤٥ - ١٤٧) – و ((رسالة الإرادة والأمر ضمن الرسائل الكبرى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (١/ ٣٨٦ - ٣٨٧).
(٢) انظر ((المواقف)) للإيجي (ص: ٣٣٢) و ((شرح المقاصد)) (٤/ ٣٠٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>