وقال العلامة محمد بن علي بن سلوم:(ومذهب سلف الأمة وأئمتها من جمهور أهل السنة يقولون: إن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأن له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية ولا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل ولا يقولون القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها بل يقرون بأن لها تأثيرًا .. ) وينقل لنا السفاريني أدلة من القرآن يشرح ما فيها من المعاني (فالحوادث تضاف إلى خالقها باعتبار وإلى أسبابها باعتبار كما قال الله تعالى: (هذا من عمل الشيطان) وقال (وما أنسانيه إلا الشيطان) مع قوله: (كل من عند الله) وأخبر أن العباد يفعلون ويصنعون ويعملون ويؤمنون ويكفرون ويفسقون وأن العبد فاعل لفعله حقيقة فقولهم: في خلق فعل العبد بإرادته وقدرته كقولهم في خلق سائر الحوادث بأسبابها، وقد دلت الدلائل اليقينية على أن كل حادث فالله خالقه وفعل العبد من جملة الحوادث والحاصل أن مذهب السلف ومحققي أهل السنة إن الله تعالى خلق قدرة الإنسان وإرادته وفعله، وأن العبد فاعل لفعله حقيقة ومحدث لفعله والله سبحانه جعله فاعلاً له محدثًا له) وقوله إن محققي السنة يقولون بما يقول به السلف فهذا حق ولهذا جاء في كتب الأشاعرة المحققة قول العلامة الشيخ إبراهيم المذاري:( .. ما يدل على أن الأشعري إنما نفى الاستقلال لا أصل التأثير بإذن الله تعالى .. ما هو المعتمد في معتقده الموافق للكتاب والسنة وأن إمام الحرمين فيما ذكره في النظامية موافق للأشعري في التحقيق المعتمد عنده في (الإبانة) .. وقال أيضًا: فإن هذا الكلام من الشيخ الأشعري صريح في وقوع الفعل بقدرة محدثة والوقوع فرع التأثير غاية الأمر أنه لم يطلق على العبد أنه خالق أدبًا فهو كما قال إمام الحرمين واستحال إطلاق القول بأن العبد خالق لأعماله فإن فيه الخروج عما درج عليه السلف) وقد قال الجويني تصريحًا لا تلميحًا بأثر قدرة العبد فقال: (ففي المصير إلى أنه لا أثر لقدرة العبد في فعله قطع طلبات الشرائع والتكذيب بما جاء به المرسلون .. ) فهل هذا الحكم من الجويني يلزم كل من أنكر أثر الأسباب وقد نقل السفاريني عن محققي أهل السنة الاتفاق في هذه المسألة فقال: ( .. وإنما ذكرت لك أقاويل هؤلاء-أي المحققون من علماء الأشاعرة- مع أن عمدة المعتقد عندنا الغير المنتقد في عقدنا مذهب السلف المقرر على الوجه المرضي المحرر لتعلم أن محققي الأشاعرة لهم موافقة على حقيقة مذهب السلف والإغضاء عما ينمقه الخلف) والذي يرجع إلى التحقيق في هذه المسألة يجد أن لمحققي الأشاعرة قولين أو فهمين، فالجويني له رأي في (الإرشاد) متقدم يقول فيه بعدم تأثير قدرة الإنسان وخالفه في آخر كُتبه وقال بأن لها تأثيرًا ونصه: ( .. قدرة العبد مخلوقة لله تبارك وتعالى باتفاق العالمين بالصانع، والفعل المقدور بالقدرة الحادثة واقع بها قطعًا ولكنه مضاف إلى الله تبارك وتعالى تقديرًا وخلقًا) وما ذهب إليه الإمام الجويني لم يرق للشهرستاني فادعى أنه ليس مذهبًا للإسلاميين بل جاء به من عند الفلاسفة (وهذا الرأي إنما أخذه من الحكماء الإلهيين وأبرزه في معرض الكلام .. إلى أن قال: ومن العجب أن مأخذ كلام الإمام أبي المعالي إذا كان بهذه المثابة فكيف يمن إضافة الفعل إلى الأسباب حقيقة).
والحق أن ما ذهب إليه الجويني ليس بدعًا من القول ولا جيء به من مصدر بعيد، بل هو ما قال به السلف والمحققون من أهل السنة وهو ظاهر القرآن ومعناه.
وبهذا يتبين خطأ البغدادي حينما زعم أن الإجماع قام على أن الأجسام لا تختلف بالطبائع وخطأ حكمه الذي رتبه على ذلك وهو الضلال. بل العكس هو الصحيح أن السلف ومحققي أهل السنة كأبي الحسن الأشعري والإمام الجويني اتفقوا على ما نص عليه ظاهر القرآن وإن اختلف النقل عنهم أحيانًا كما بيناه وهو ما توصل إليه البوطي وهو يعلق على كلام الغزالي في نص له يُسلم بوجود قوى كامنة في الأشياء (وتحليل الغزالي هذا أقرب إلى الانسجام مع التعليلات العلمية لظواهر الأشياء وتكويناتها .. وختمه بقوله: إلا أنه أبعد عن مسلك الجمهور وما اتفق عليه)