للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"واعلم أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو: مسألة العقل. فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الاتباع والمأثور تبعاً للمعقول. وأما أهل السنة قالوا: الأصل في الدين الاتباع، والعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول، لاستغنى الخلق عن الوحي وعن الأنبياء صلوات الله عليهم، ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء ... " (١).وعدوا من أهم علامات أهل السنة، أنهم عند التنازع يدعون إلى التحاكم إليها دون آراء الرجال وعقولها، بينما أهل البدع يدعون إلى التحاكم إلى آراء الرجال ومعقولاتها (٢).

وهؤلاء – الأشاعرة – يقضي قانونهم الكلي الذي وضعوه، بالرجوع عند الاختلاف إلى العقل كما تقدم. فما جوزه قبل، وما اعتبره مستحيلاً وجب تأويله إن كان قطعي الثبوت، وإن كان ظنياً اشتغل بتأويله على سبيل التبرع، أو رد لعدم حجيته.

وبذلك ردوا، وأولوا كثيراً من نصوص الشرع، مما أفضى بهم إلى القول بقول الجهمية تارة، كما في مسألة الإيمان مثلاً، والقدر، وبقول المعتزلة تارة في نفي وتأويل بعض الصفات التي جاء بها السمع الصحيح.

ولا نشتغل بذكر ذلك هنا. إذ سنبين موضعهم عند الكلام على وسطية أهل السنة بين طرفي الإفراط والتفريط، في كل باب إن شاء الله تعالى.

وإنما أكتفي هنا بالإشارة إلى أن موافقتهم للمعتزلة في قضية العقل والنقل جرتهم إلى موافقتهم في كثير مما خالفوا فيه السلف من أهل السنة والحديث والأثر.

وبعد هذا العرض لموقف الأشاعرة من قضية النقل، وما ترتب عليه من مخالفة السلف، وموافقة أهل البدع. يتبين لنا أن دعوى الأشاعرة أنهم أهل السنة دعوى عريضة لم يستطيعوا أن يدللوا عليها، فهم لم يلتزموا بما برروا به اعتبار أنفسهم أهل السنة والفرقة الناجية وهو زعمهم أنهم هم من بين فرق الأمة الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه (٣).وأنهم يقبلون ما صح من سنته صلى الله عليه وسلم (٤).

فإنهم وإن قبلوا شيئاً من سنته صلى الله عليه وسلم، لم يقبلوه لكونه سنة يجب التسليم لها، وإنما قبلوه لكون العقل دل على ما جاءت به السنة، بدليل أنه إذا كان النص وإن صح معارضاً للعقل – في نظرهم – لم يقبل، فإما أن يرد أو يؤول كما تقدم. ومن كان هذا حاله لا يكون من أهل السنة، وإن أصاب السنة كما جاء عن الإمام أحمد، إن صاحب الكلام لا يكون من أهل السنة وإن أصابها (٥).

لأنه لم يستمد من السنة أو يتلقى منها ويسلم لها، فمن تلقى من السنة واستمد منها فهو من أهلها وإن أخطأ – أي: في فهمها -، ومن تلقى من غيرها، فقد أخطأ وإن وافقها في النتيجة.


(١) ((الانتصار لأهل الحديث، ضمن صوت المنطق للسوطي)) (ص: ١٨٢).
(٢) ابن القيم، ((مختصر الصواعق المرسلة)) (٢/ ٦٢٧).
(٣) البغدادي، ((الفرق بين الفرق)) (ص: ٣١٨).
(٤) البغدادي، ((الفرق بين الفرق)) (ص: ٢٦).
(٥) اللالكائي، ((شرح أصول أهل السنة)) (١/ ١٥٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>