ثم تراجع عن مقولاته في الصفات وغيرها التي سلك فيها مسلك التأويل والتعويل على العقل, والكلام في أمور الغيب والصفات والقدر فقرر أن يلحق بركب أهل السنة والجماعة فأبان عن ذلك في كتابه (الإبانة) ووفقه الله للتخلص من التلفيق العقدي فقال:" ..... وقولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين, وأئمة الحديث, ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل – نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته – قائلون, ولمن خالف قوله مجانبون ..... " (١).
لكن مذهبه الثاني: النقلة من الاعتزال إلى طريقة ابن كلاب الكلامية – بقي مذهبا يحتذى إلى اليوم, لأنه يشبع رغبات الفلاسفة والمتكلمين, وأهل التأويل.
فالأشاعرة تنتسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري قبل عودته إلى أهل السنة, وبعد فراره من الاعتزال, وبالرغم من أنه تخلى عن هذا المذهب, وكتب خلافه في (الإبانة) والمقالات, إلا أن الشاعرة لا يزالون يحملونه تبعته ...
فالأشاعرة مذهب طارئ ملفق بين أهل السنة وأهل الكلام, لذلك صاروا أقرب الفرق الكلامية إلى أهل السنة.
ومن جانب آخر فالأشعرية مرت بأطوار تاريخية في كل طور تزداد الشقة بينهم وبين أهل السنة ولا سيما بعد ما أدخل فيها زعماؤهم اللاحقون تلك الأسس والمعتقدات الدخيلة من: الفلسفة, والتصوف, والمنطق, والكلام, والجدل, حتى صارت عقيدة الأشاعرة مزيجا من تلك الأخلاط.
ومن أبرز أولئك: الباقلاني, المتوفى سنة (٤٠٣هـ) والقشيري المتوفى سنة (٤٦٥هـ) وأبو المعالي الجويني, المتوفى سنة (٤٧٨هـ) , وابن العربي المتوفى سنة (٥٤٣هـ) , والغزالي, المتوفى سنة (٥٠٥) , والفخر الرازي, المتوفى سنة (٦٠٦هـ) , والآمدي المتوفى سنة (٦٨٢هـ) , ونحوهم. غفر الله لنا ولهم
فأصبحت الأشاعرة اليوم مزيجا من المشارب والمعتقدات بين أهل السنة والفلسفة والتصوف, وعلم الكلام, لذلك نجدهم أكثر من ينتسبون للسنة وقوعا في المخالفات العقدية والعبادية (أي بدع العقائد والعبادات) وهذا بخلاف أهل السنة في كل زمان, كما نجد أن كثيرا من الأشاعرة (حاليا) منضوون تحت الطرق الصوفية البدعية. وتكثر فيهم بدع القبور والتبرك البدعي بالأشخاص والأشياء, وبدع العبادات والأذكار والموالد ونحوها. وهذه البدع هي التي تميزهم – حاليا – عن أهل السنة بوضوح.
فمن خلال الواقع اليوم, يندر أن ترى أحدا من الأشاعرة إلا ولديه شيء من البدع أو الميل إلى ذلك, أو التساهل وعدم الاكتراث بهذه المسألة الخطيرة, بينما العكس فيمن ينتسبون – حقا – لأهل السنة, فإنه يندر أن تجد فيهم من يتعرق بشيء من البدع, إلا عن جهل وهذا قليل جدا بحمد الله.
لذا يطلق الأشاعرة المعاصرون تبعا للرافضة وسائر الطوائف غير السنية على أهل السنة في سائر بلاد المسلمين اليوم (وهابية) نسبة إلى الداعي المصلح محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – كما أنهم قديما كانوا يطلقون على أهل السنة (الحنابلة) نسبة لإمام السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وما علموا أن نبذهم باسم هذين الإمامين أحمد بن حنبل ومحمد بن عبد الوهاب تزكية لهم وهو شرف وشهادة لهم بأنهم مقتدون بأئمة الهدى.
المصدر:مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة وموقف الحركات الإسلامية المعاصرة منها لناصر العقل – ص٥٤
(١) انظر: ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: ٥٢).