وهذا يدل على أن هذا المنهج – وهو الرد على متأخري الأشاعرة بأقوال متقدميهم وأئمتهم الذين ينتسبون إليهم – قد استخدمه العلماء قبل شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد استخدم شيخ الإسلام هذا المنهج في كتبه المختلفة وركز عليه كثيرا لأنه رأى فيه فوائد عملية، ومن ذلك ما جرى في المناظرة حول الواسطية – وهي المناظرة الثانية التي حضرها صفي الدين الهندي – حيث إن شيخ الإسلام ذكر أنه قبل هذا المجلس اجتمع به بعض أكابر الشافعية من الأشعرية وعبروا له عن خوفهم من أن تظهر حجته على خصومه دون أن يكون من أئمة أصحابهم الأشعرية من يوافقها، يقول شيخ الإسلام:"وكان مقصودي تقرير ما ذكرته على قول جميع الطوائف، وأن أبين اتفاق السلف ومن تبعهم على ما ذكرت، وأن أعيان المذاهب الأربعة، والأشعري، وأكابر أصحابه، على ما ذكرته؛ فإنه قبل المجلس الثاني اجتمع بي من أكابر علماء الشافعية والمنتسبين إلى الأشعرية، والحنفية، وغيرهم ممن عظم خوفهم من هذا المجلس، وخافوا انتصار الخصوم فيه، وخافوا على نفوسهم أيضا من تفوق الكلمة، فلو أظهرت الحجة التي ينتصر بها ما ذكرته ولم يكن من أئمة أصحابهم من يوافقها لصارت فرقة، ولصعب عليهم، أن يظهروا في المجالس العامة الخروج عن أقوال طوائفهم، بما في ذلك من تمكن أعدائهم من أغراضهم، فإذا كان من أئمة مذاهبهم من يقول ذلك، وقامت عليه الحجة، وبان أنه مذهب السلف: أمكنهم إظهار القول به، مع ما يعتقدونه في الباطن من أنه الحق .... وقلت لمن خاطبني من أكابر الشافعية: لأبين أن ما ذكرته هو قول السلف وقول أئمة أصحاب الشافعي، وأذكر قول الأشعري، وأئمة أصحابه التي ترد على هؤلاء الخصوم، ولينتصرن كل شافعي، وكل من قال بقول الأشعري الموافق لمذهب السلف، وأبين أن القول المحكي عنه في تأويل الصفات الخبرية قول لا أصل له في كلامه، وإنما هو قول طائفة من أصحابه، فللأشعرية قولان ليس للأشعري قولان"(١).
والأشاعرة المتأخرون في أوقات محنهم يلجأون إلى أقوال أئمتهم، ينقلونها ويستشهدون بها ليبينوا سلامة معتقدهم وصحة مذهبهم، وهذا ما فعله القشيري في الشكاية المشهورة، وابن عساكر في تبيين كذب المفتري.
ولا شك أن المنهج الذي سلكه شيخ الإسلام في الرد على أقوال المتأخرين بأقوال شيوخهم الذي يعتزون بالانتساب إليهم له قيمته الكبرى وأثره البالغ لأمرين:
أحدهما: أن هذه النقول أتى بها شيخ الإسلام موثقة، منقولة بحروفها من كتبهم المشهورة التي تناقلها المتأخرون واعتزوا بها، ونقلوا عنه ما يوافق أقوالهم من المسائل التي لم يختلف فيه قول متقدمي الأشاعرة عن قول متأخريهم، ولذلك لم يستطع أحد منهم الطعن فيما نقله شيخ الإسلام، ولم يقل: إن هذا منسوب إلى أئمتهم، أو إنه حكاية لمذهبهم – كما تحكى بعض كتب الفرق أقوال الطوائف، وقد يكون في الحكاية زيادة أو نقص، وتقديم أو تأخير يخل بالمعنى – ولا شك أن الأمانة والمنهج العلمي الذي وفق إليه شيخ الإسلام، جعل أعداءه ومعارضيه يرضخون له في ذلك مع حرصهم الشديد على النيل منه ومن أقواله وكتبه، ولتوضيح ذلك يمكن ذكر هذين المثالين:
المثال الأول: قال بعض متأخري الأشعرية: إن للأشعري في الصفات الخبرية قولين، قول بالتأويل، وقول بالإثبات، فلما جاء شيخ الإسلام – وهو المطلع على كتب الفرق – أوضح مرارا أنه ليس للأشعري فيها إلا قول واحد هو الإثبات، وأتى بالأدلة على ذلك من كتبه، أما الذين يزعمون أن له قولا آخر فحتى الآن لم ينقل أحد منهم نصا من كتب الأشعري يدل على ذلك.
(١) ((مناظرة حول الواسطية، مجموع الفتاوى)) (٣/ ١٨٨ - ١٩٠)، و ((العقود الدرية)) (ص: ٢٤١ - ٢٤٢).