للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن المعلوم أن من أشهر مؤلفات ابن كثير هو "تفسيره"، وقد سطر فيه معتقده واضحاً جليا، ولذلك أعرض المؤلفان عن ذكره إلا في موضع واحد، ولعل ذلك لما علما من إبطاله لدعواهما في أشعريته. وله رحمه الله باسم "الاعتقاد" أبان فيها عن معتقده فقال ما لفظه: "فإذا نطق الكتاب العزيز ووردت الأخبار الصحيحة بإثبات السمع والبصر والعين والوجه والعلم والقدرة والعظمة والمشيئة والإرادة والقول والكلام والرضا والسخط والحب والبغض والفرح والضحك، وجب اعتقاد حقيقة ذلك من غير تشبيه بشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، والانتهاء إلى ما قاله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من غير إضافة، ولا زيادة عليه، ولا تكييف، ولا تشبيه، ولا تحريف، ولا تبديل، ولا إزالة لفظ عما تعرفه العرب وتصرفه عليه، والإمساك عما سوى ذلك" (١) اهـ.

وهذا كلام صريح في إثباته لصفات الله تعالى على الحقيقة، ومنعه من تأويلها، أو تغييرها، أو تشبيهها بصفات خلقه. ولم يفرق بين صفة وأخرى.

وأنا أسوق بعض نصوصه في تقرير المعتقد، ليعلم أنه مباين للأشاعرة: قال في تفسير قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: ٥٤]: "وأما قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً، ليس هذا موضع بسطها، وإنما سلك في هذا المقام مذهب السلف الصلاح: مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهم، من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: ١١]، بل الأمر كما قال الأئمة – منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري-: "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله"، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى" (٢) اهـ.

وهذا ظاهر في أنه موافق للسلف في إمرار الصفات كما جاءت من غير تعرض لها بتأويل، ولا تحريف، ومن غير اعتقاد تشبيه ولا تمثيل، وأن إثباتها على ظاهرها لا يستلزم التشبيه، كما نقله عن نعيم بن حماد.

وقال في آخر كلامه: أن سبيل الهدى هو وصف الله بها على الوجه اللائق به. وهذا صريح في بطلان دعوى أشعريته، إذ أن الأشاعرة يتسلطون عليها بالتأويل، ولا يثبتون ظاهرها اللائق بالله، بل يدعون أن ظاهرها يستلزم التشبيه. وقد بين أنها لا تستلزم التشبيه، وأن من فهم منها تشبيه الله بخلقه، وأنها كصفة المخلوق فهو مشبه، ولذلك قال: "والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه". فخص هذا المفهوم السقيم بأنه لا يقع إلا من المشبهين، وهم الذين يفهمون من صفة الله ما هو صفة المخلوق.

ولما ذكر أئمة السنة والقدوة في مسائل الاعتقاد، لم يذكر منهم ابن كلاب والقلانسي والكرابيسي والحارث المحاسبي، ولا الأشعري، ولا أحداً من أصحابه. ويستحيل أن يكون أشعرياً ثم لا يعرج على أبي الحسن الأشعري فيمن يقتدي بهم. وقال في قوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: ٣٩]: "قال أبو عمران الجويني: تربى بعين الله. وقال قتادة: تغذى على عيني. وقال معمر بن المثنى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي بحيث أرى" (٣) اهـ.

وهذا إثبات العين لله تعالى، ولم يتعرض لها بتأويل ولا تعطيل. وقال في قوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: ٢٧]: "وهذه الآية كقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: ٨٨]، وقد نعت الله تعالى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة بأنه ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، أي: هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يطاع فلا يخالف" (٤) اهـ.

فتأمل إثباته لوجه الله تعالى، وأنه موصوف بالجلال والإكرام. وقال في قوله تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: ٢٢]: " وَجَاء رَبُّكَ، يعني: لفصل القضاء بين خلقه ... فيجيء الرب تعالى لفصل القضاء كما يشاء، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفاً صفوفاً" (٥) اهـ.

المصدر:الأشاعرة في ميزان أهل السنة لفيصل الجاسم - ص ٥٩٧


(١) مخطوط، نقلاً من كتاب ((علاقة الإثبات والتفويض)) لرضا بن نعسان بن معطي (ص: ٨٢).
(٢) ((تفسير ابن كثير)) (٢/ ٢٢١).
(٣) ((تفسير ابن كثير)) (٣/ ١٤٨).
(٤) ((تفسير ابن كثير)) (٤/ ٢٧٤).
(٥) ((تفسير ابن كثير)) (٤/ ٥١١).

<<  <  ج: ص:  >  >>