للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واتهام المتأخرون للمتقدمين بالتناقض يدل عليه ما حوته كتبهم التي صرحوا فيها بمخالفة السلف ومخالفة أئمتهم، وما يذكرونه من الأدلة والمناقشات لعقائدهم – وخاصة في مسائل العلو والاستواء، والصفات الخبرية، والرؤية – تحمل في ثناياها الاتهام لشيوخهم وأئمتهم بالتناقض، وهم قد لا يصرحون بذلك لأن هؤلاء هم أئمة المذهب، وبهم يقتدون في المسائل الأخرى التي وافقوهم فيها. ومع ذلك فأحيانا يصرحون: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره أبو المعالي الجويني في مسألة الصفات الخبرية كالوجه واليدين، التي أثبتها متقدمو الأشعرية – الذين ينفون الصفات الاختيارية عن الله تعالى، ولذلك يؤولون الاستواء والنزول والمجيء، إما بتأويلات صريحة كما فعل المتأخرون، وإما بجعلها من صفات الذات لا من صفات الفعل، وأن الاستواء – مثلا – فعل فعله الله في العرش سماه استواء، كما هو قول الأشعري – فالجويني يقول لهؤلاء إذا كنتم أثبتم الصفات الخبرية بظواهر الآيات فيلزمكم أن تثبتوا بقية الصفات كالاستواء والنزول والجنب بظواهر النصوص أيضا، أما إذا سوغتم تأويل هذه فلا يبعد تأويل الصفات الخبرية: يقول الجويني عن الصفات الخبرية، "ومن سلك من أصحابنا سبيل إثبات هذه الصفات بظواهر هذه الآيات ألزمه سوق كلامه أن يجعل الاستواء والمجيء والنزول والجنب من الصفات تمسكا بالظاهر، فإن ساغ تأويلها فيما يتفق عليه، لم يبعد أيضا طريق التأويل فيما ذكرناه" (١). فهو يقول: إن تأويل هذه والمنع من تأويل تلك تناقض. فإما إثبات الجميع، أو تأويل الجميع. ويلاحظ أن هذا يقال للجويني أيضا.

والنماذج التي ذكرها شيخ الإسلام لتناقض الأشاعرة كثيرة، ومن أمثلتها:١ - ذكر شيخ الإسلام – في أثناء رده على الجويني – الذي سمى أصحابه أهل الحق وذكر ما يتميزون به عن المعتزلة، وتكلم بكلام عجيب حول أخبار الصفات حتى إن الإمام القرطبي انتقد كلامه في ذلك (٢) – أنواعا كثيرة من التناقضات في المذهب الأشعري، فقال – بعد رده على الجويني من وجوه عديدة-: "الوجه الرابع عشر أن يقال له: هؤلاء الذين سميتهم أهل الحق، وجعلتهم قاموا من تحقيق أصول الدين بما لم يقم به الصحابة، هم متناقضون في الشرعيات والعقليات: أما الشرعيات: فإنهم تارة يتأولون نصوص الكتاب والسنة، وتارة يبطلون التأويل، فإذا ناظروا الفلاسفة والمعتزلة – الذين يتأولون نصوص الصفات مطلقا، ردوا عليهم، وأثبتوا لله الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر ونحو ذلك من الصفات – وإذا ناظروا من يثبت صفات أخرى دل عليها الكتاب والسنة كالمحبة والرضا والغضب والمقت والفرح والضحك ونحو ذلك تأولوها، وليس لهم فرق مضبوط بين ما يتأول وما لا يتأول، بل منهم من يحيل على العقل، ومنهم من يحيل على الكشف، فأكثر متكلميهم يقولون: ما علم ثبوته بالعقل لا يتأول، وما لم يعلم ثبوته بالعقل يتأول، ومنهم من يقول: ما علم ثبوته بالكشف والنور الإلهي لا يتأول، وما لم يعلم ثبوته بالعقل يتأول، وكلا الطريقين ضلال وخطأ من وجوه .... (٣) "، ثم قال: "وأما تناقضهم في العقليات فلا يحصى:

"مثل قولهم: إن الباري لا يقوم به الأعراض، ولكن تقوم به الصفات، والصفات والأعراض في المخلوق سواء عندهم، فالحياة والعلم والقدرة والإرادة والحركة والسكون في المخلوق هو عندهم صفة وهو عندهم عرض، ثم قالوا في الحياة ونحوها هي في حق الخالق صفات وليست بأعراض، إذ العرض هو ما لا يبقى زمانين، والصفة القديمة باقية ... ".


(١) ((الإرشاد)) للجويني (ص: ١٥٧ - ١٥٨).
(٢) انظر: كلام الجويني وتعليق القرطبي في ((التسعينية)) (ص: ٢٤٤ - ٢٤٥).
(٣) ((التسعينية)) (ص: ٢٥٧ - ٢٥٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>