للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وممن ذهب إلى هذه الأقوال أو بعضها قوم لهم في صدري منزلة مثل طائفة من فقهاء الأشعرية الشافعيين, لأني على مذهب الشافعي رضي الله عنه. وعرفت فرائض الدين وأحكامه على هذا المذهب, فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلة, يذهبون على مثل هذه الأقوال, وهم شيوخي ولي فيهم الاعتقاد التام لفضلهم وعلمهم. ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات (حزازات) لا يطمئن قلبي إليها, وأجد الكدر والظلمة منها وأجد ضيق الصدر وعدم انشراحه مقرونا بها, فكنت كالمتحير المضطرب في تحيره, المتململ في تقلبه وتغيره وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول, مخافة الحصر والتشبيه, ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أجدها نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني وأجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد صرح بها مخبرا عن ربه واصفا له بها, وأعلم بالاضطرار أنه صلى الله عليه وسلم كان يحضر في مجلسه الشريف والعالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي والجافي. ثم لا أجد شيئا يعقب تلك النصوص التي كان يصف ربه بها, لا نصا ولا ظاهرا مما يصرفها عن حقائقها ويؤولها كما تأولها هؤلاء – مشايخي الفقهاء – المتكلمون مثل تأويلهم الاستواء بالاستيلاء والنزول, بنزول الأمر وغير ذلك, ولم أجد عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لربه من الفوقية واليدين وغيرهما. ولم تنقل عنه مقالة تدل على أن لهذه الصفات معاني أخر باطنة غير ما يظهر من مدلولها مثل الفوقية القهرية ويد النعمة والقدرة وغير ذلك, وأجد الله عز وجل يقول الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:٥] خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:٥٤] يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل:٥٠] إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:١٠] أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك:١٦] أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك:١٧].فسرد آيات كثيرة تدل على فوقية الله وعلوه على خلقه إلى أن قال: ثم أجد الرسول عليه الصلاة والسلام لما أراد الله تعالى أن يخصه بقربه عرج به من سماء إلى سماء حتى كان قاب قوسين أو أدنى ثم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث للجارية ((أين الله؟ قالت: في السماء)) فلم ينكر عليها بحضرة أصحابه, فلا يتوهمون أن الأمر على خلاف ماهو عليه, بل أقرها وقال: ((أعتقها فإنها مؤمنة)) (١) , وفي حديث جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله فوق عرشه فوق سمواته, وسمواته فوق أرضه مثل القبة وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى القبة)) (٢) , وساق عدة أحاديث.

إلى أن قال: لا ريب إننا نحن وإياهم متفقون على إثبات صفات الحياة والسمع والبصر والعلم والقدرة والإرادة والكلام لله, ونحن قطعا لا نعقل عن الحياة إلا هذا العرض الذي يقوم بأجسامنا وكذلك لا نعقل من السمع والبصر إلا أعراض تقوم بجوارحنا فكما أنهم يقولون حياته ليست بعرض وعلمه كذلك وبصره كذلك هي صفات كما تليق به كما لا تليق بنا فكذلك نقول نحن: حياته معلومة وليست مكيفة وعلمه معلوم وليس مكيفا وكذلك سمعه وبصره معلومان وليس جميع ذلك أعراضا بل هو كما يليق به.


(١) رواه مسلم (٥٣٧) , من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه.
(٢) رواه أبو داود (٤٧٢٦) , وقال: بإسناد أحمد بن سعيد هو الصحيح. وقال الذهبي في ((العلو)) (٤٤): غريب جداً. وضعفه الألباني في ((ضعيف أبي داود)).

<<  <  ج: ص:  >  >>