للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومثل ذلك بعينه فوقيته واستواؤه ونزوله, ففوقيته معلومة, أعني ثابتة كثبوت حقيقة السمع وحقيقة البصر, فإنهما معلومان ولا يكيفان.

وكذلك فوقيته معلومة ثابتة غير مكيفة كما تليق به واستواؤه على عرشه معلوم غير مكيف بحركة أو انتقال يليق بالمخلوق, بل كما يليق بعظمته وجلاله.

فصفاته معلومة من حيث الجملة والثبوت, غير معقولة من حيث التكييف والتحديد. فيكون المؤمن بها مبصرا من وجه أعمى من وجه, مبصرا من حيث الإثبات والوجود. أعمى من حيث التكييف والتحديد, وبهذا يحصل الجمع بين الإثبات لما وصف الله تعالى نفسه به, وبين نفي التحريف والتشبيه والوقوف, وذلك هو مراد الرب تعالى في إبراز صفاته لنا لنعرفه بها ونؤمن بحقائقها وننفي عنها التشبيه ولا نعطلها بالتحريف والتأويل. ولا فرق بين الاستواء والسمع ولا بين النزول والبصر, الكل ورد فيه النص.

فإن قالوا لنا في الاستواء شبهتم نقول لهم في السمع شبهتم ووصفتم ربكم بالعرض, فإن قالوا: لا عرض بل كما يليق به قلنا: في الاستواء والفوقية لا حصر بل كما يليق به, فجميع ما يلزموننا به في الاستواء والنزول واليد والوجه والقدم والضحك والتعجب نلزمهم به في الحياة والسمع والبصر والعلم, فكما لا يجعلونه أعراضا كذلك نحن لا نجعلها جوارح, ولا يوصف به المخلوق وليس من الإنصاف أن يفهموا في الاستواء والنزول والوجه واليد صفات المخلوقين فيحتاجون إلى التأويل والتحريف.

فإن فهموا من هذه الصفات ذلك, فيلزمهم أن يفهموا في الصفات السبع, صفات المخلوقين من الأعراض فما يلزموننا به في تلك الصفات من التشبيه والجسمية نلزمهم به في هذه الصفات من العرضية وما ينزهون به في الصفات السبع وينفون عنه عوارض الجسم فيها فكذلك نحن نعمل في تلك الصفات التي ينسبون فيها إلى التشبيه سواء بسواء.

ومن أنصف عرف ما قلنا واعتقده وقبل نصيحتنا ودان الله بإثبات جميع صفاته هذه وتلك, ونفى عن جميعها التشبيه والتعطيل والتأويل والوقوف, وهذا مراد الله تعالى منا في ذلك. لأن هذه الصفات وتلك جاءت في موضع واحد وهو الكتاب والسنة. فإذا أثبتنا تلك وحرفنا هذه وأولنا كنا كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض وفي ذلك بلاغ وكفاية إن شاء الله تعالى.

هكذا نصح هذا الإمام الصادق في نصحه الإمام الجويني شيوخه الذين عاش معهم برهة من الزمن في التأويل والتحريف في صفات الله تعالى كلها أو التصرف فيها بإثبات بعضها وتأويل البعض الآخر, ثم تاب الله عليه فتاب وكتب هذه (النصيحة) التي انتخبنا منها بعض النقاط من أولها ومن آخرها وقد ناقشهم فيها بالأدلة النقلية والعقلية معا وطالبهم بالإنصاف – والإنصاف من الإيمان – وأوضح لهم أنه لا يوجد ما يفرق بين ما أولوه وحرفوا فيه الكلام وبين ما أثبتوه من الصفات لأن هذه وتلك جاءت في موضع واحد وهو الوحي من كتاب أو سنة, ودرج على عدم التفريق بينها سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين. وعلماء الحديث.

ثم أوضح السبب الذي حمل علماء الكلام على تأويلهم صفات الله تعالى عامة والصفات الخبرية السمعية خاصة. وهو أنهم فهموا منها خطأ, المعاني التي تليق بالمخلوق, ثم أرادوا تصحيح ذلك المفهوم الخاطئ فوقعوا في التأويل أي شبهوا أولا ثم عطلوا ثانيا, هذه هي حقيقة القوم وعقيدتهم.

فنسأل الله تعالى أن يجزل المثوبة لهذا الإمام وأمثاله على هذه النصيحة الهادئة والصادقة, إنه سميع قريب. فليهنأ أبو محمد الجويني بهذا التوفيق وهذه الهداية, ولعل الله علم من الرجل الإخلاص في عمله وجهاده الذي بذله في البحث عن الحق في فترة (حيرته وتردده) تلك الفترة الصعبة على قصرها – فيما أحسب – فهداه الله ووفقه مصداقا لقوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: ٦٩] ولقد كاد حبه وتقديره لشيوخه أن يخلداه إلى أرض التقليد ليحولا بينه وبين رأيه الحق واتباعه (ولكن الله سلم) ووفقه وأخذ بيده إلى بر السلامة, فسلم ونحمد الله على ذلك.

إذا قارن الإمام بين ما يخوض فيه شيوخه من التأويل وبين ما ينطق به الكتاب المبين والسنة المطهرة من إثبات حقائق الصفات, فتأكد أن شيوخه لم يفهموا نصوص الصفات الفهم الصحيح لا سيما الصفات الخبرية, بل لم يفهموا منها إلا ما يليق بالمخلوق ولذلك تورطوا في التحريف والتعطيل أو الوقوف دون محاولة للفهم, لذا بادر الإمام أبو محمد بتوجيه تلك النصيحة فور توبته وسلوكه مسلك السلف على بصيرة من ربه.

المصدر:الصفات الإلهية في الكتاب والسنة لمحمد أمان الجامي – ص ٤٠٩

<<  <  ج: ص:  >  >>