للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال صاحب (نثر اللآلئ): " قد صرح غير واحد من علماء الحنفية بأن العقل حجة من حجج الله تعالى ويجب الاستدلال به قبل ورود الشرع وعليه فيكون إرسال الرسل وإنزال الكتب تتمة للدين من بيان ما لا تهتدي العقول إليه من أنواع العبادات والحدود وأمر البعث والجزاء فإن ذلك مما يشكل مع العقل وحده لا لنفس معرفة الخالق فإنها تنال ببداية (أي ببداهة) العقول" (١).

وهذا المنهج الذي تحاول به الماتريدية التوسط بين العقل والنقل قائم أساسا على فكرة باطلة وهي أن نصوص الوحي متعارضة مع أحكام العقل، وهذا التعارض المزعوم إنما هو في الواقع مسلك الفلاسفة في الأصل الذين لا يثبتون النبوات ولا يرون أن إرسال الرسل وما جاءوا به حقائق ثابتة فمصدرهم في الاستدلال على إثبات الأمور هو العقل وما أثبته العقل فهو الثابت وما نفاه هو المنفي.

فلما اعتمد المتكلمون من المعتزلة ومن نحا نحوهم كالماتريدية والأشاعرة هذا الأصل وقرروا أن العقل هو الميزان الصحيح وأن أحكامه يقينية أقحموا العقل في مجالات ليست من مجال بحثه فخرج العقل بأحكام باطلة وفاسدة وهي بزعمهم أنها يقينية ثم أرادوا أن يجمعوا بين هذه الأحكام ونصوص الوحي فتولد لديهم تعارض بين الأحكام العقلية التي توصلوا إليها وبين نصوص الوحي فأرادوا أن يتخلصوا من هذا التعارض فوضعوا قانونا يسمى بقانون التأويل الذي حاصله أنه يجب تقديم العقل على النقل وتأويل النقل حتى يتفق مع العقل أو تفويضه.

وأصل شبهتهم في تقديمهم للعقل على النقل وجعله مصدر التلقي هو اعتقادهم أن السمع لا يعرف ولا يثبت إلا من طريق العقل. قال صاحب (المسامرة): إن الشرع إنما يثبت بالعقل فإن ثبوته يتوقف على دلالة المعجزة على صدق المبلغ وإنما ثبتت هذه الدلالة بالعقل فلو أتى الشرع مما يكذب العقل وهو شاهده لبطل الشرع والعقل معا .... " (٢).

وقد أجاب عن هذه الشبهة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبينا تهافتها وعدم صحتها بقوله: " من المعلوم أنه ليس كل ما يعرف بالعقل يكون أصلا للسمع ودليلا على صحته فإن المعارف العقلية أكثر من أن تحصر والعلم بصحة السمع غايته أن يتوقف على ما به يعلم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.

وليس كل العلوم العقلية يعلم بها صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بل ذلك يعلم بما يعلم به أن الله تعالى أرسله مثل إثبات الصانع وتصديقه للرسول بالآيات وأمثال ذلك.

وإذا كان كذلك لم تكن جميع المعقولات أصلا للنقل لا بمعنى توقف العلم بالسمع عليها ولا بمعنى الدلالة على صحته ولا بغير ذلك لا سيما عند كثير من متكلمة الإثبات أو أكثرهم .... الذين يقولون العلم بصدق الرسول عند ظهور المعجزات التي مجرى تصديق الرسول علم ضروري فحينئذ ما يتوقف العلم بصدق الرسول من العلم العقلي سهل يسير مع أن العلم بصدق الرسول له طرق كثيرة متنوعة ...


(١) ((نثر اللآلئ)) (٢٠٤).
(٢) ((المسامرة شرح المسامرة لابن الهمام)) (٣١، ٣٢)، ط بولاق.

<<  <  ج: ص:  >  >>