للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالماتريدية إذا ليس لهم قانون مستقيم في التأويل ولا في التفويض فأقوالهم فيه مختلفة مضطربة .... والتأويل على اصطلاح الماتريدية وغيرها من الفرق الكلامية ... قول مبتدع محدث لا يعرف عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة المسلمين ولا عن أحد من أهل اللغة المتقدمين (١). والتأويل بهذا الاصطلاح ما هو إلا منهج عقلي ظهر بظهور بدعة نفي الصفات والقدر على يد الجهمية والمعتزلة فقد ورد عن بعض رءوس الجهمية أنه قال: " ليس شيء أنقض لقولنا من القرآن فأقروا به في الظاهر ثم صرفوه بالتأويل ويقال إنه قال إذا احتجوا عليكم بالحديث فغالطوهم بالتأويل" (٢).

والذي يغلب على الظن كما أن القول بنفي الصفات انتقل إلى الجهمية والمعتزلة من طريق اليهود والنصارى فكذا القول بالتأويل، إذ إن التأويل بهذا الاصطلاح كان معروفا عند اليهود والنصارى قبل ظهوره على يد الجهمية والمعتزلة ففي اليهودية ارتبط التأويل باسم (فايلو الإسكندراني) الذي كان ينفي الصفات الخبرية التي وردت في التوراة ويؤكد على وجوب تفسيرها تفسيرا مجازيا وفق قوانين التأويل المجازي التي حددها هو بنفسه. وسار على نهج فايلو عدد من لاهوتي اليهود في العصور الإسلامية منهم سعدايا الفيومي وموسى بن ميمون الذي أكد في كتابه (دلالة الحائرين) أن السبب الرئيسي الذي أدى إلى ظهور التشبيه هو التمسك بظاهر الصفات الخبرية التي وردت في التوراة وتفسيرها بالحقيقة دون المجاز (٣). وفي النصرانية ظهر القول بالتأويل المجازي على يد كلمانت الإسكندري وأوريجين والقديس أوغسطين واشتهر به أيضا يوحنا الدمشقي الذي يعتبر من أكبر آباء الكنيسة الشرقية وقد كان له دور كبير في ظهور الجدل العقلي بين المسلمين بل يعده كثير من الباحثين المسؤول الأول عن ظهور الجدل العقلي في البيئة الإسلامية (٤).

ولقد كان التأويل أصل كل بدعة ظهرت بين المسلمين كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله في نونيته:

هذا وأصل بلية الإسلام من ... تأويل ذي التحريف والبطلان

وهو الذي قد فرق السبعين بل ... زادت ثلاثا قول ذي البرهان

إلى أن قال رحمه الله:

وجميع ما في الكون من بدع ... وأحداث تخالف موجب القرآن

فأساسها التأويل ذو البطلان لا ... تأويل أهل العلم والعرفان

فجميع ما أحدث في الإسلام من بدع فرقت الأمة شذر مذر أصله وسببه هو التأويل الباطل الذي هو في الحقيقة تحريف وتعطيل لنصوص الكتاب والسنة. وقول الماتريدية وغيرهم من المتكلمين بالتأويل ظاهر الفساد لكل عاقل ومما يدل على فساده تناقضهم فيه والقول المتناقض بطبيعة الحال قول فاسد لذا كان الطبيب ابن النفيس يقول ليس إلا مذهبان مذهب أهل الحديث أو مذهب الفلاسفة فأما هؤلاء المتكلمون فقولهم ظاهر التناقض والاختلاف (٥) ... وهو بهذا "يعني أن أهل الحديث أثبتوا كل ما جاء به الرسول وأولئك جعلوا الجميع تخييلا وتوهيما ومعلوم بالأدلة الكثيرة السمعية والعقلية فساد مذهب هؤلاء الملاحدة فتعين أن يكون الحق مذهب السلف أهل الحديث والسنة والجماعة" (٦).


(١) انظر ((درء تعارض العقل والنقل)) (١/ ١٤، ١٥، ٢٠٥، ٢٠٦)، ((الإمام ابن تيمية وموقفه من التأويل)) الجليند ٢٧ - ٥٠، ((ظاهرة التأويل وصلتها باللغة)) السيد أحمد عبد الغفار ١٥ - ٣٣.
(٢) ((الدرء)) (٥/ ٢١٧، ٢١٨)، ((الصواعق المرسلة)) (٤/ ١٤٣٣).
(٣) ((دلالة الحائرين)) (١٢٣)، وانظر (٨١ - ٨٧، ١٠٧، ١٠٨).
(٤) انظر ((دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية)) عرفان عبد الحميد (٢١٦، ٢١٧)، ((ابن تيمية وموقفه من قضية التأويل)) الجليند (٢٠٢ - ٢٠٦).
(٥) ((درء تعارض العقل والنقل)) (١/ ٢٠٣).
(٦) ((درء تعارض العقل والنقل)) (١/ ٢٠٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>