للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ودخل تحت هذه الدلالة جميع أجزاء العالم من السموات والأفلاك الدوارة والنجوم السيارة وغيرها والأرضين وما فيها من البحار والجبال والنبات والجماد وغير ذلك. ثم لما ثبت أن العالم محدث والمحدث ما كان جائز الوجود وما كان جائز الوجود كان جائز العدم وما جاز عليه الوجود والعدم لم يكن وجوده من مقتضيات ذاته فلم يكن اختصاصه بالوجود دون العدم - خصوصا بعد ما كان عدما- إلا بتخصيص مخصص ولهذا لا يثبت البناء دون الباني فلا بد من محدث له أحدثه وخصه بالوجود" (١).وهذه الطريقة التي استدلت بها الماتريدية على إثبات وجود الله والتي أحدثها المعتزلة والجهمية وتبعهم عليها من وافقهم من الأشعرية وغيرهم قد طعن فيها السلف والأئمة وأتباعهم وجمهور العقلاء من الفلاسفة والمتكلمين وبينوا أن الطرق التي دل عليها القرآن أصح منها (٢).قال الإمام أبو العباس بن سريج رحمه الله: " توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتوحيد أهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك " (٣).وقال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله في الغنية: " إن الله سبحانه ... بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله وسراجا منيرا وقال له: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة: ٦٧] وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع وفي مقامات شتى وبحضرته عامة أصحابه: ((ألا هل بلغت)) (٤) وكان الذي أنزل عليه من الوحي وأمر بتبليغه وهو كمال الدين وتمامه لقوله تعالى: أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:٣] فلم يترك صلى الله عليه وسلم شيئا من أمور الدين قواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه إذ لا خلاف بين فرق الأمة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تزال الحاجة ماسة إليه أبدا في كل وقت وزمان ولو أخر عنه البيان لكان التكليف واقعا بما لا سبيل للناس إليه وذلك فاسد غير جائز وإذا كان الأمر على ما قلناه وقد علم يقينا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعهم في أمر التوحيد إلى الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها إذ لا يمكن واحدا من الناس أن يروي عنه ذلك ولا عن أحد من الصحابة من هذا النمط حرفا واحدا فما فوقه لا من طريق تواتر ولا آحاد علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقتهم ولو كان في الصحابة قوم يذهبون مذاهب هؤلاء في الكلام والجدل لعدوا من جملة المتكلمين ولنقل إلينا أسماء متكلميهم كما نقل إلينا أسماء فقهائهم وقرائهم وزهادهم فلما لم يظهر ذلك دل على أنه لم يكن عندهم أصل " (٥).


(١) ((التمهيد)) (٤، ٥)، وانظر ((رسالة في وجوه إثبات الواجب)) للدواني (عامة الرسالة).
(٢) انظر ((درء تعارض العقل والنقل)) (٧/ ٢٤٢).
(٣) ((الدرء)) (٧/ ١٨٥)، ((بيان تلبيس الجهمية)) (١/ ٤٨٧)، ((الفتاوى)) (١٧/ ٣٠٥).
(٤) رواه البخاري (١٠٥) ومسلم (٩٠١).
(٥) ((الغنية ضمن صون المنطق)) (٩٥، ٩٦)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (٧/ ٢٩٦، ٢٩٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>