للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والأشعري بين فساد هذا الدليل في (رسالته إلى أهل الثغر) بقوله: " ما يستدل به من أخباره عليه الصلاة والسلام على ذلك (أي على إثبات الصانع) أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة ومن اتبعهم من القدرية وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام من قبل أن الأعراض لا يصح الاستدلال بها إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها ويدق الكلام عليها ... وفي كل رتبة ... فرق تخالف فيها ويطول الكلام معهم عليها وليس يحتاج ... في الاستدلال بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مثل ذلك لأن آياته والأدلة على صدقه محسوسة مشاهدة قد أزعجت القلوب وبعثت الخواطر على النظر في صحة ما يدعو إليه .... وإذا كان ذلك ما وصفنا بان ... أن طرق الاستدلال بأخبارهم (أي الرسل) عليهم السلام ... أوضح من الاستدلال بالأعراض إذ كانت أقرب إلى البيان على حكم ما شوهد من أدلتهم المحسوسة مما اعتمدت عليه الفلاسفة ومن اتبعهم من أهل الأهواء واغتروا بها ... ". ثم قال: " فأخلد سلفنا رحمة الله عليهم ومن اتبعهم من الخلف الصالح بعد ما عرفوه من صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما دعاهم إليه من العلم بحدثهم ووجود المحدث لهم بما نبههم عليه من الأدلة إلى التمسك بالكتاب والسنة وطلب الحق في سائر ما دعوا إلى معرفته منها والعدول عن كل ما خالفها ... وأعرضوا عما صارت إليه الفلاسفة ومن اتبعهم من القدرية وغيرهم من أهل البدع من الاستدلال بذلك على ما كلفوا معرفته لاستغنائهم بالأدلة الواضحة في ذلك عنه وإنما صار من أثبت حدوث العالم والمحدث له من الفلاسفة إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر لدفعهم الرسل وإنكارهم لجواز مجيئهم ... " (١).ومن الفلاسفة الذين بينوا فساد دليل الحدوث ابن رشد الحفيد في كتابه (مناهج الأدلة) حيث قال: " وأما الأشعرية فإنهم رأوا أن التصديق بوجود الله تبارك وتعالى لا يكون إلا بالعقل لكن سلكوا في ذلك طريقا ليست هي الطرق الشرعية التي نبه الله عليها ودعا الناس إلى الإيمان به من قبلها وذلك أن طريقتهم المشهورة انبنت على بيان أن العالم حادث، وانبنى عندهم حدوث العالم على القول بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ وأن الجزء الذي لا يتجزأ محدث والأجسام محدثة بحدوثه، وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ- وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد- طريق معتاصة تذهب على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل فضلا عن الجمهور ومع ذلك فهي طريقة غير برهانية ولا مفضية بيقين إلى وجود البارئ " (٢).ثم ذكر بأن هذه الطريقة ليست نظرية يقينية ولا شرعية يقينية وقال: " وذلك ظاهر لمن تأمل أجناس الأدلة المنبهة في الكتاب العزيز على المعنى، أعني بمعرفة وجود الصانع، وذلك أن الطرق الشرعية إذا تؤملت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين أحدهما أن تكون يقينية والثاني أن تكون بسيطة غير مركبة أعني قليلة المقدمات فتكون نتائجها قريبة من المقدمات الأول" (٣).هذا كلام ابن رشد وهو من كبار الفلاسفة السائرين على طريقة أرسطو وأتباعه يبين "أن الأدلة العقلية الدالة على إثبات الصانع مستغنية عما أحدثه المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم من طريقة الأعراض ونحوها وأن الطرق الشرعية التي جاء بها القرآن هي طرق برهانية تفيد العلم للعامة والخاصة والخاصة عنده يدخل فيهم الفلاسفة والطرق التي لأولئك هي مع طولها وصعوبتها لا تفيد لا العامة ولا الخاصة هذا مع أنه لم يقدر القرآن قدره ...


(١) ((الدرء)) (٧/ ٢٠٩، ٢١٢).
(٢) ((مناهج الأدلة)) تحقيق د محمود قاسم (١٣٥)، مكتبة الأنجلو المصرية ١٩٥٥ م، ط دار الآفاق الجديدة ٤٧، ٤٨.
(٣) ((مناهج الأدلة)) ت قاسم (١٤٨) ط الآفاق (٥٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>