للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

" (١).

ومن الأئمة الذين بينوا فساد هذه الطريقة التي استدلت بها الماتريدية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد نقد دليل الحدوث نقدا علميا موضوعيا في كثير من كتبه واستقصى جزئياته وبين تهافتها عقلا ونقلا وخاصة في كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل).

فمن الوجوه التي ذكرها رحمه الله في بيان فساد هذا الدليل أن الاستدلال على وجود الله بهذا الدليل بدعة في الدين أحدثها المعتزلة والجهمية ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وأتباعهم أنه قال بهذا.

وأن هذا الدليل مبني على مقدمات طويلة غامضة مشكلة وينتهي إلى نتيجة هي أبين عند العقلاء من المقدمات فالطريقة لو قدر صحة مقدماتها فهي تطويل بلا فائدة واستدلال على الأظهر بالأخفى وعلى الأقوى بالأضعف كما لا يحد الشيء بما هو أخفى منه وإثبات الصانع لا يفتقر إلى حدوث الأجساد بل نفس ما يشهد حدوثه من الحوادث يغني عن ذلك والعلم بأن الحادث يفتقر إلى المحدث هو من أبين العلوم الضرورية والعقل يعلم ضرورة افتقار المحدَث إلى المحدِث الفاعل ويقطع به ويعلمه ضرورة.

والدليل مبني على استعمال ألفاظ مجملة ومعان مبهمة لم يعرفها العرب في تخاطبهم ولم يستعملوها فيما بينهم ....

واستعمال المتكلمين لهذا الدليل جعلهم يلتزمون لوازم فاسدة أوقعتهم في التناقض والاضطراب والحيرة والشك كنفي الصفات ونحوها. وبين رحمه الله تعالى الطريقة الشرعية في الاستدلال المذكورة في القرآن وأكد على أن الإقرار بالصانع ضروري فطري وأنه لم ينازع في أصل هذه المسألة أحد من بني آدم وإنما نازعوا في تفاصيله وأن الإقرار بالصانع ثابت في الفطرة وهو أرسخ المعارف وأثبت العلوم وأصل الأصول (٢)

قال رحمه الله: " الطريقة المذكورة في القرآن هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات المعلوم حدوثها بالمشاهدة ونحوها على وجود الخالق سبحانه وتعالى فحدوث الإنسان يستدل به على المحدث لا يحتاج أن يستدل على حدوثه بمقارنة التغير أو الحوادث التي له ووجوب تناهي الحوادث.

والفرق بين الاستدلال بحدوثه والاستدلال على حدوثه بين والذي في القرآن هو الأول لا الثاني كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:٣٥] فنفس حدوث الحيوان والنبات والمعدن والمطر والسحاب ونحو ذلك معلوم بالضرورة بل مشهود لا يحتاج إلى دليل وإنما يعلم بالدليل ما لم يعلم بالحس وبالضرورة.

والعلم بحدوث هذه المحدثات علم ضروري لا يحتاج إلى دليل وذلك معلوم بالحس أو بالضرورة ...

وحدوث الإنسان من المني كحدوث الثمار من الأشجار وحدوث النبات من الأرض وأمثال ذلك ومن المعلوم بالحس أن نفس الثمرة حادثة كائنة بعد أن لم تكن وكذلك الإنسان وغيره كما قال تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم:٦٧] وقال تعالى: قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا [مريم:٩].وإذا كان كذلك فالطريقة المذكورة في القرآن هي المعلومة بالحس والضرورة ولا يحتاج مع ذلك إلى إقامة دليل على حدوث ما يحدث من الأعيان بل يستدل بذلك على وجود المحدث تعالى" (٣).


(١) ((الدرء)) (٩/ ٣٣٣).
(٢) انظر ((الفتاوى)) (٢/ ٣٧، ٣٨، ٧٢)، ((الدرء)) (١/ ٣٩، ٤٠، ٣/ ٩٧، ١٠٩، ١١٢، ٧/ ٢٢٣، ٨/ ١٢، ٩/ ١٣٢)، ((شرح الأصفهانية)) ط مخلوف (١٦، ١٧).
(٣) ((الدرء)) (٧/ ٢١٩ - ٢٢٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>