للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تثبت الماتريدية صفة العلم لله تعالى بدلالة المحدثات عليه، إذ الإحكام والإتقان في المخلوقات والمحدثات يدلان على علم الخالق والمحدث، إذ لا إحكام ولا إتقان بغير علم. قال الماتريدي: "وعلى ما ذكرنا من تواصل الفعل .. وتتابعه محكماً متقناً هو الدليل أنه كان فعله على العلم به" (١).وقال أبو المعين النسفي: "ولنا أيضاً طريقة دلالة المحدثات على الصفات وهي: المفعول كما دل على الفعل فمطلقه يدل على القدرة، وكونه محكماً متقناً يدل على العلم، فإن كل من رأى المفعول محكماً متقناً استدل بكونه مفعولاً على قدرة فاعلة عليه، وبكونه محكماً على علم فاعله به ... " (٢).

وقرر البياضي الدليل من ثلاثة أوجه:

"الأول: إثباته بخلقه للأشياء فإنه يقتضي معلومية الأشياء قبل أن تخلق.

الثاني: أنه يدل على قدرة الخالق أي كونه فاعلاً بالقصد والاختيار، لأن الخلق إيجاد عن عدم ولا يتصور الفعل بالقصد والاختيار إلا مع العلم بالمقصود.

الثالث: أن الخلق البديع يدل على علم الخالق" (٣).

وبعد أن ذكر هذه الأوجه قال: "وتقريره أن خلقه تعالى وأفعاله متقن مشتمل على الصنع الغريب والترتيب العجيب، وكل من كان فعله كذلك فهو عالم، أما الصغرى فظاهرة لمن نظر في الآفاق والأنفس وارتباط العلويات بالسفليات، وما أعطى الحيوانات من الأسباب والآلات المناسبة لمصالحها، وما أعطى النحل والعنكبوت من العلم بما يفعله من البيوت بلا فرجار وآلة، كما دل قوله تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا [النحل: ٦٨]، وأما الكبرى فضرورية. وقد ينبه عليها بأن من رأى خطوطاً حسنة أو سمع ألفاظاً عذبة تدل على معان دقيقة جزم بأن مصدرها عالم، وتوهم كفاية الظن مدفوع بالتكرار والتكثر على التصور ضروري وهو كاف في المقصود ... " (٤).

كما أنهم استدلوا على إثبات صفة العلم بدليل التنزيه عن النقائص وتقريره: إذا لم يتصف الرب تعالى بالعلم، اتصف بالجهل، لأن العلم والجهل من الصفات المتعاقبة، واتصافه تعالى بالجهل ممتنع، لأنه صفة نقص، ومن شرط القدم التبري عن النقائص، فوجب اتصافه تعالى بالعلم. قال أبو المعين النسفي: "إنا عرفنا ثبوت هذه الصفات كلها لمعرفتنا بتعاقب أضدادها التي في أنفسها نقائص إياها، ومعرفتنا باستحالة ثبوت النقائص في القديم، فعرفنا ثبوت هذه الصفات التي هي صفات الكمال ضرورة انتفاء النقائص عن القديم، وعرف أن ثبوتها من شرائط القدم وهذه الطريقة جارية في هذه الصفات (٥).

والدليل الأول هو المشهور عندهم وعند عامة المتكلمين في إثبات صفة العلم، ولا ريب في صحته فقد دل القرآن كما في قوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: ١٤].

ودلالة المحدثات - بما فيها من الأحكام والإتقان - على علم الخالق والمحدث أمر ضروري يدركه كل عاقل بدون إقامة دليل منطقي لا يفهمه كل أحد.

وقوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ قد دل على وجوب علمه تعالى بالأشياء من عدة أوجه:

"أحدها: أنه خالق لها والخلق هو الإبداع بتقدير، وذلك يتضمن تقديرها في العلم قبل تكونها في الخارج.


(١) ((التوحيد)) (ص٤٥)، وانظر (ص ٤٧، ٦١، ٦٢، ٦٦، ٦٧).
(٢) ((تبصرة الأدلة)) (ل ١٣٥)، وانظر: (ل ١١٣، ١٣٦، ١٣٧)، ((النور اللامع)) (ل ٣٧، ٣٨، ٤١).
(٣) ((إشارات المرام)) (ص ١٢٦).
(٤) ((إشارات المرام))، وانظر: ((سلام الأحكم)) (ص ١٣٢، ١٣٣)، ((التمهيد)) (ص ٢١، ٢٢)، ((شرح المقاصد)) (٢/ ٨٧، ٨٨)، ((المسايرة)) (ص ٥٨ - ٥٦)، ((جامع المتون)) (ص ٨، ٩).
(٥) ((تبصرة الأدلة)) (ل ١١٤)، وانظر: ((بحر الكلام)) (ص ١٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>