للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولما كانت رؤية الله تعالى من المسائل المتعلقة باليوم الآخر قالت الماتريدية بإثباتها لدلالة السمع عليها وبجوازها في العقل إلا أنهم قيدوها بنفي الجهة والمقابلة وذلك لأنهم ينفون عن الله علو الذات فاحتاجوا إلى أن يجمعوا بين مسألة نفي العلو وإثبات الرؤية وهم قالوا بهذا لأنهم قالوا بـ"صحة الدليل الذي استدلت به المعتزلة على حدوث العالم وهو أن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون وما لا يخلو عن حادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها. قالوا فيلزم حدوث كل جسم فيمتنع أن يكون البارئ جسما لأنه قديم ويمتنع أن يكون في جهة لأنه لا يكون في الجهة إلا جسم فيمتنع أن يكون مقابلا للرائي لأن المقابلة لاتكون إلا بين جسمين" (١). قال الماتريدي: " القول في رؤية الرب عز وجل عندنا لازم وحق من غير إدراك ولا تفسير فأما الدليل على الرؤية فقوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:١٠٣] ولو كان لا يرى لم يكن لنفي الإدراك حكمة .... الثاني قول موسى عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:١٤٣] ولو كان لا يجوز الرؤية لكان ذلك السؤال منه جهل بربه ... وأيضا قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:٢٣] ... وأيضا قوله تعالى: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:٢٦] ... وأيضا ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير خبر أنه قال: ((سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون ... )) (٢) " (٣).

ثم قال: " فإن قيل كيف يرى؟ قيل: بلا كيف إذ الكيفية تكون لذي صورة بل يرى بلا وصف قيام وقعود واتكاء وتعلق واتصال وانفصال ومقابلة ومدابرة وقصير وطويل ونور وظلمة وساكن ومتحرك ومماس ومباين وخارج وداخل ولا معنى يأخذه الوهم أو يقدره العقل لتعاليه عن ذلك " (٤).وقال أبو المعين النسفي: " في العقل دليل على جواز رؤية الله تعالى وقد ورد الدليل السمعي بإيجاب رؤية المؤمنين الله تعالى في الدار الآخرة فيرى لا في مكان ولا على جهة من مقابلة أو اتصال شعاع أو ثبوت مسافة بين الرائي وبين الله تعالى وغير ذلك من المعاني التي هي من أمارات الحدث " (٥).وبعد ذكره للأدلة السمعية قال: " والمعقول أنا نرى في الشاهد الجواهر والألوان والأكوان إذ كما نميز بحاسة البصر بين جوهر وجوهر نميز بين الأبيض والأسود والمتحرك والساكن والاجتماع والافتراق غير مرئية ولم ير إلا الجواهر لما وقع التمييز بين الأبيض والأسود والمتحرك والساكن كما لا يقع بين العالم والجاهل والحكيم والسفيه والساخط والراضي ثم لما ثبتت رؤية هذه المعاني ولم نعلم وضعا جامعا بين هذه الأجناس إلا الوجود إذ لا جوهرية ولا لونية في الحركة والسكون وعند السبر يتبين أن ليس وراء الوجود صفة تجمع هذه الأجناس فعلمنا أن المعنى المطلق للرؤية المجوز لها ليس إلا الوجود ... ثم رأينا ان الوجود يتعدى من الشاهد إلى الغائب فيكون جائز الرؤية في العقل ثم الشرع ورد بإثباتها في الآخرة للمؤمنين " (٦).

وقال الأوشي:

يراه المؤمنون بغير كيف ... وإدراك وضرب من مثال


(١) ((منهاج السنة)) (٣/ ٣٤٢)، وانظر ((بيان تلبيس الجهمية)) (٢/ ٧٧)، و ((منهاج السنة)) (٢/ ٣٣٤).
(٢) رواه البخاري (٥٥٤) ومسلم (٦٣٣) دون لفظة (يوم القيامة) وروى هذه اللفظة ابن ماجه (١٧٨) والطبراني (٢/ ٢٩٦) (٢٢٣٤) وغيرهما
(٣) ((التوحيد)) (ص ٧٧ - ٨٠).
(٤) ((التوحيد)) (٨٥).
(٥) ((التمهيد)) (ص ٣٨).
(٦) ((التمهيد)) (ص ٤٠، ٤١)، وانظر ((تبصرة الأدلة)) (ل ٢٣٦، وما بعدها) ((بحر الكلام)) (ص ٣٩ - ٣١).

<<  <  ج: ص:  >  >>