للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقول الماتريدية هذا معلوم الفساد بالضرورة كما أن الأحاديث المتواترة الواردة في الرؤية دلت على أن المؤمنين يرون ربهم في جهة العلو من وجوه: أحدها: " أن الرؤية في لغتهم لا تعرف إلا لرؤية ما يكون بجهة منهم فأما رؤية ما ليس في الجهة فهذا لم يكونوا يتصورونه فضلا عن أن يكون اللفظ يدل ... فإنك لست تجد أحدا من الناس يتصور وجود موجود في غير جهة فضلا عن أن يتصور أنه يرى فضلا عن أن يكون اسم الرؤية المشهور في اللغات كلها يدل على هذه الرؤية الخاصة " (١).الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم " شبه لهم رؤيته برؤية الشمس والقمر وليس ذلك تشبيها للمرئي بالمرئي ومن المعلوم أنه إذا كانت رؤيته مثل رؤية الشمس والقمر وجب أن يرى في جهة من الرائي كما أن رؤية الشمس والقمر كذلك فإنه لو لم يكن كذلك لأخبرهم برؤية مطلقة نتأولها على ما يتأول من يقول بالرؤية في غير جهة أما بعد أن يستفسرهم عن رؤية الشمس صحوا ورؤية البدر صحوا ويقول: ((إنكم ترون ربكم كذلك)) فهذا لا يمكن أن يتأول على الرؤية التي يزعمونها فإن هذا اللفظ لا يحتملها لا حقيقة ولا مجازا" (٢).الوجه الثالث: " أنه قال: ((هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب وهل تضارون في القمر)) (٣) فشبه رؤيته برؤية أظهر المرئيات إذا لم يكن ثم حجاب منفصل عن الرائي يحول بينه وبين المرئي ومن يقول إنه يرى في غير جهة يمتنع عنده أن يكون بينه وبين العباد حجاب منفصل عنهم إذ الحجاب لا يكون إلا لجسم ولما يكون في جهة وهم يقولون الحجاب عدم خلق الإدراك في العين والنبي صلى الله عليه وسلم مثل رؤيته برؤية هذين النورين العظيمين إذا لم يكن دونهما حجاب " (٤).الوجه الرابع: "أنه أخبر أنهم لا يضارون في رؤيته وفي حديث آخر: ((لا يضامون)) (٥) ونفي الضير والضيم إنما يكون لإمكانه لحوقه للرائي ومعلوم إنما يسمونه رؤية ما ليس بجهة من الرائي لا فوقه ولا شيء من جهاته لا يتصور فيها ضير ولا ضيم حتى ينفي ذلك بخلاف رؤية ما يواجه االرائي ويكون فوقه فإنه قد يلحقه فيه ضيم وضير إما بالازدحام عليه أو كلال البصر لخفائه كالهلال وإما لجلائه كالشمس والقمر " (٦).

وأما دليلهم العقلي على إمكان الرؤية والذي حاصله أن كل موجود تصح رؤيته فهو ضعيف جدا لأنه يلزم منه رؤية الأصوات والروائح والعلوم والإرادات والمعاني وجواز أكلها وشربها ولمسها. ومعلوم أن " من الأشياء ما يرى ومنها ما لا يرى والفارق بينهما لا يجوز أن يكون أمورا عدمية لأن الرؤية أمر وجودي والمرئي لا يكون إلا موجودا فليست عدمية لا تتعلق بالمعدوم ولا يكون الشرط فيه إلا أمرا وجوديا لا يكون عدميا وكل ما لا يشترط فيه إلا الوجود دون العدم كان بالوجود الأكمل أولى منه بالأنقص فكل ما كان وجوده أكمل كان أحق بأن يرى وكل ما لم يمكن أن يرى فهو أضعف وجودا مما يمكن أن يرى فالأجسام الغليظة أحق بالرؤية من الهواء والضياء أحق بالرؤية من الظلام لأن النور أولى بالوجود والظلمة أولى بالعدم والموجود الواجب الوجود أكمل الموجودات وجودا وأبعد الأشياء عن العدم فهو أحق بأن يرى وإنما لم نره لعجز أبصارنا عن رؤيته لا لأجل امتناع رؤيته .... فإذا كان في الدار الآخرة أكمل الله تعالى الآدميين وقواهم حتى أطاقوا رؤيته ... " (٧).فالعقل إذًا دل على إمكان الرؤية ووقوعها بدليل " أن الرؤية أمر وجودي لا يتعلق إلا بموجود وما كان أكمل وجودا كان أحق أن يرى فالباري سبحانه أحق أن يرى من كل ما سواه لأن وجوده أكمل من كل موجود سواه" (٨)

المصدر:الماتريدية دراسة وتقويما لأحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي - ص - ٤٥٢ - ٤٣٠


(١) ((بيان تلبيس الجهمية).
(٢) ((بيان تلبيس الجهمية)) (٢/ ٤١٠، ٤١١)، وانظر ((الفتاوى)) (١٦/ ٨٤، ٨٥).
(٣) رواه البخاري (٦٥٧٣) ومسلم (١٨٣).
(٤) ((بيان تلبيس الجهمية)) (٢/ ٤١١).
(٥) رواه البخاري (٥٥٤) ومسلم (٦٣٣) بلفظ (تضامون) أما لفظ يضامون فليست واردة.
(٦) ((بيان تلبيس الجهمية)) (٢/ ٤١١).
(٧) ((منهاج السنة)) (٢/ ٣٣١ - ٣٣٣)، وانظر ((الدرء)) (١/ ٢٥٢).
(٨) ((مختصر الصواعق)) (١/ ٢٨٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>