للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح صدره للإسلام، وإنما يتنافيان عند أحد رجلين: جاهل بمقدار الأئمة وفضلهم، أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث الله بها رسوله، ومن له علم بالشرع والواقع يعلم أن الرجل الجليل قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لاجتهاده " (١).إنه من الواجب على كل مسلم عدم حكاية الأقوال الضعيفة، أو العمل على نشرها بين المسلمين، فربما سمعها أحد من العامة فاتبعها لجهله، أو عمل بها موافقة لهواه، يقول ابن القيم: " فإذا كنا قد حذرنا زلة العالم، وأمرنا مع ذلك أن لا نرجع عنه، فالواجب على من شرح الله صدره للإسلام إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة أن لا يحكيها لمن يتقلدها، بل يسكت عن ذكرها إن تيقن صحتها، وإلا توقف في قبولها؛ فكثيرا ما يحكى عن الأئمة ما لا حقيقة له، وكثير من المسائل يخرجها بعض الأتباع على قاعدة متبوعة، مع أن ذلك الإمام لو رأى أنها تفضي إلى ذلك لما التزمها (٢).إن إثارة هذه الأقوال الضعيفة للعلماء، والتشويش بها على عامة المسلمين، والطعن بها على علمائهم ومذاهبهم من حيل أعداء الدين لتفريق المسلمين، وتشكيكهم في الحق الذي معهم، يقول ابن تيمية: " ومثل هذه المسألة الضعيفة (٣) ليس لأحد أن يحكيها عن إمام من أئمة المسلمين، لا على وجه القدح فيه، ولا على وجه المتابعة له فيها، فإن ذلك ضربا من الطعن في الأئمة واتباع الأقوال الضعيفة، وبمثل ذلك صار وزير التتر يلقي الفتنة بين مذاهب أهل السنة حتى يدعوهم إلى الخروج عن السنة والجماعة، ويوقعهم في مذاهب الرافضة وأهل الإلحاد. والله أعلم " (٤).

ب – من طرق التشنيع على أولي الأمر: ما يقوم به أهل الأهواء وأصحاب الفرقة من هتك ستر أولي الأمر، وتصيد أخطائهم والعمل على تضخيمها ونشرها بين الناس، وهذا أسلوب دنيء يخالف ما أمرنا به من الستر على المسلم وعدم التجسس عليه، وتلمس العذر له إن أخطأ، والعمل على مناصحته لا فضحه.

ثم إن هذا التصرف الذي يديره أهل الأهواء، وتلوكه العامة جهلا منها بذلك، من شأنه أن ينشر البغضاء والعداوة في الأمة خاصة إذا كان هذا الأمر صادرا من العامة ضد ولاة أمرها.

ثم إنه إذا انتشر هذا الأسلوب وقعت الهوة بين أولي الأمر وبين العامة، وفقدت الثقة بين هؤلاء وهؤلاء، وعمت الفوضى، وتفرقت الأمة وفقدت مرجعيتها، وأصبحت لقمة سائغة لكل خارجي مقاتل، أو عدو مخادع. فيجب على المسلم ألا ينظر للفعل الصادر من أخيه المسلم دون نظر إلى مبرراته، والسؤال عن مقتضاه حتى تتضح له الصورة، مثال ذلك أن نجدة الحروري كتب إلى ابن عباس يسأله عن خلال، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: " إن الناس يقولون: إن ابن عباس يكاتب الحرورية. ولولا أني أخاف أن أكتم علما لم أكتب له " (٥).


(١) انظر ((إعلام الموقعين)) (٣/ ٢٨٣) باختصار وتصرف، وانظر الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم " بعثت بالسيف بين يدي الساعة " لابن رجب الحنبلي (٩٠/ ٩٣).
(٢) ((إعلام الموقعين)) (٣/ ٢٨٦) باختصار يسير.
(٣) يقصد بالمسألة: قول من قال: بجواز نكاح الرجل من ابنته من الزنا. انظر ((الفتاوى)) (٣٢/ ٨٦).
(٤) انظر ((الفتاوى)) (٣٢/ ٨٨).
(٥) انظر كتاب ((السنة)) للمروزي (ص ١٤٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>