للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحذر من زيغة الحكيم وزلته فإنها فتنة، وإن الشيطان حريص على إضلال الناس وتفريقهم بإزلال العالم الحكيم، وإجراء كلمة الباطل على لسانه لترويجها بين المسلمين. يقول ابن تيمية مبينا كيف تكون الفتنة والمحنة للناس بزلة العالم فيقول: " ولكن وقوع مثل هذا التأويل من الأئمة المتبوعين أهل العلم والإيمان صار من أسباب المحن والفتنة، فإن الذين يعظمونهم قد يقتدون بهم في ذلك، وقد لا يقفون عند الحد الذي انتهى إليه أولئك، بل يتعدون ويزيدون زيادات لم تصدر من أولئك الأئمة السادة، والذين يعلمون تحريم جنس ذلك الفعل، قد يعتدون على المتأولين بنوع من الذم فيما هو مغفور لهم، ويتبعهم آخرون فيزيدون في الذم ما يستحلون به من أعراض إخوانهم وغير أعراضهم ما حرمه الله ورسوله، فهذا واقع كثير في موارد النزاع الذي وقع فيه خطأ من بعض الكبار " (١).إن الغرض من التحذير من زيغة العالم وزلته هو عدم اتباعه في هذه الزلة أو الاحتجاج بها، إذ الحجة في قول الله وقول رسوله وإليهما ترد موارد النزاع (٢). إن الحق يجب أن يقبل ممن قاله أيا كان، وأن الباطل يجب أن يرد على من قاله أيا كان (٣).أما كيف نعرف أن هذا القول من العالم خطأ وزلة؟ فبين معاذ رضي الله عنه ذلك بقوله: " اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال: ما هذه؟ "، وفي رواية أخرى: " هي كلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه "؟ (٤).فزلته ضابطها: أنه يخالف بها جمهور الأمة، والعلماء المجتهدون هم الذين يعرفون ما وافق الحق وما خالفه (٥)، وينكرون على العالم زلته، يقول ابن تيمية: " وهنا أصل يجب اعتماده: وذلك أن الله سبحانه عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، ولم يعصم آحادها من الخطأ، لا صديقا ولا غير صديق، لكن إذا وقع بعضها في خطأ فلابد أن يقيم الله فيها من يكون على الصواب في ذلك الخطأ. وإذا كان فيها من يأمر بمنكر متأولا، فلابد أن يكون فيها من يأمر بذلك المعروف " (٦).ويقول الشاطبي رحمه الله: " فإن قيل فهل لغير المجتهدين من المتفقهين في ذلك ضابط يعتمده أم لا؟ فالجواب أن له ضابطا تقريبيا، وهو أن ما كان معدودا في الأقوال غلطا وزللا قليل جدا في الشريعة، وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها، قلما يساعدهم عليها مجتهد آخر، فإذا انفرد صاحب قول عن عامة الأمة، فليكن اعتقادك أن الحق مع السواد الأعظم من المجتهدين، لا من المقلدين " (٧).إن زلة العالم لا توجب هجرانه أو الحط من قدره، لذلك قال معاذ: " ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع "، فهذا هو المنهج في التعامل مع العلماء الأجلاء، وهذه هي وسطية الإسلام واعتدال السلف الصالح، يقول ابن القيم: " معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول فقالوا بمبلغ علمهم، والحق في خلافها لا توجب إطراح أقوالهم جملة وتنقصهم والوقيعة فيهم، فهذان طرفان جائران عن القصد، وقصد السبيل بينهما ... فلا نؤثمهم ولا نعصمهم، ولا نقبل كل أقوالهم ولا نهدرها ...


(١) ((الاستقامة)) (١/ ٣٠١)، وانظر الموافقات للشاطبي (٤/ ٥٣١).
(٢) انظر ((الاستقامة)) (١/ ٣٠٠)، ((الموافقات)) للشاطبي (٤/ ٥٣٢)، ((إعلام الموقعين)) (٣/ ٢٨٢، ٢٨٤).
(٣) انظر ((إعلام الموقعين)) (١/ ١٠٤) في وجوب قبول الحق ممن قاله.
(٤) انظر ((جامع بيان العلم)) (٢/ ٩٨١).
(٥) انظر ((الاستقامة)) (١/ ٢٩٩) باختصار.
(٦) انظر ((الاستقامة)) (١/ ٢٩٩) باختصار.
(٧) ((الموافقات)) (٤/ ٥٣٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>