لقد تقدم في الفقرات رقم (١٠ - ١٥) في الفائدة الأولى من المبحث الأول: أن الماتريدية والأشعرية يدعون أنهم يمثلون أهل السنة، وأنهم على مذهب السلف الصالح، وأنهم فرقة ناجية إلى آخر ما يزعمون.
ولما كانت هذه الدعوى كاذبة خلاف الواقع، وأنه لا صلة لهم بالسلف الصالح في منهجهم وأصولهم في كثير من أبواب العقيدة، وأن الأشعرية لا تصح نسبتهم إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، كما أن الماتريدية لا صلة لهم بعقيدة الإمام أبي حنيفة رحمه الله.
رأينا من الواجب أن نعلق في هذا المبحث تعليقا على دعواهم هذه ليتبين للقراء حقيقة دعواهم، ولئلا يغتر بهم من خفي عليهم حقيقة أمرهم بعد هذا، فأقول وبالله التوفيق:
أما الأشعرية - فلا تصح نسبتهم إلى الإمام الأشعري؛ وذلك لوجوه:
الأول: أن للأشعري أدوارا ثلاثة:
دور اعتزالي.
ودور كلابي.
ودور سلفي.
قال ابن كثير (٧٧٤هـ) وأقره الزبيدي الحنفي الماتريدي (١٢٠٥هـ) والشيخ أحمد عصام الكاتب: (ذكروا للشيخ أبي الحسن الأشعري ثلاثة أحوال:
أولها حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالة.
الحال الثاني: إثبات الصفات العقلية السبعة وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع والبصر، والكلام، وتأويل الخيرية كالوجه واليدين، والقدم، والساق، ونحو ذلك.
الحال الثالث: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جريا على منوال السلف وهي طريقته في الإبانة التي صنفها آخرا وشرحها الباقلاني، ونقلها ابن عساكر، وهي التي مال إليها الباقلاني، وإمام الحرمين وغيرهما من أئمة الأصحاب المتقدين في أواخر أقوالهم).
قلت: هذا الذي قاله الحافظ ابن كثير، وأقره الزبيدي الحنفي، وأحمد عصام الكاتب هو القول الفصل في تقلبات الأشعري واستقراره على مذهب السلف أخيرا وهذا حجة على بطلان نسبة الأشعرية إليه.
الثاني: أن كتاب (الإبانة) للأشعري آخر كتبه، وهو الحق الذي لا مرية فيه كما صرح به جمع غفير من أهل العلم حتى بعض الماتريدية.
وهذا من الحجج القاطعة والبراهين الساطعة أن الأشعري استقر مذهبه على ما في كتاب (الإبانة)، وهو على طريقة السلف في الإثبات دون التفويض والتأويل، وهذا مما يبطل زعم الكوثري وغيره من المغرضين الممرضين: أن (الإبانة) أول ما صنفه الأشعري بعد رجوعه عن الاعتزال.
وكيف لا يكون زعم الكوثري هذا باطلا وقد صرح كثير من أهل العلم أن الأشعري إنما ألف كتاب (الإبانة) بعد ما دخل بغداد بل الكوثري نفسه قد صرح بهذا فوقع في تناقض واضح فاضح، وهو لا يشعر.
وللكوثري دجل آخر حول كتاب (الإبانة) يدل على أنه آية في التمويه والتشويه.
بل الحق - والحق يقال - أن الذي صنفه الأشعري بعد رجوعه من الاعتزال هو كتاب (اللمع) وما على شاكلته الذي يوافق طريقة الكلابية؛ وأما (الإبانة) - فلا، وألف لا؛ فقد صرح ابن عساكر بأن الأشعري لما صعد المنبر، وأعلن رجوعه عن الاعتزال دفع الكتب إلى الناس، ومنها كتاب (اللمع).
وذكر ابن فورك عدة كتب للأشعري ثم قال: (هذه أسامي كتبه التي ألفها إلى سنة عشرين وثلاثمائة). وذكر فيها كتاب (اللمع) ولم يذكر فيها كتاب (الإبانة)؛ فدل هذا على أن (الإبانة) صنفها بعد هذه المدة.
الثالث: أن كل من ذب عن الأشعري - إنما اعتمد في الذب عنه على نصوص كتاب (الإبانة)، فقد احتج بهذه الحجة شيخ الإسلام وغيره.