أما اختلاف النسبة - من أن الماتريدية تنتسب إلى الماتريدي، وأن الأشعرية تنتسب إلى الأشعري - فلا يؤثر على كونهما فرقة واحدة، لأن هذا الاختلاف ليس اختلافا جوهريا.
وأما اختلاف الفريقين في بعض المسائل فهو ليس حاجزا دون اتحادهما لوجوه:
١ - الأول: أن الخلاف بين الفريقين ليس جوهريا بل في التفريعات دون الأصول.
٢ - الثاني: أن ذلك لا يستلزم التفسيق والتضليل والتبديع عندهم.
٣ - الثالث: أن الخلاف لفظي في جل تلك المسائل إن لم يكن في كلها.
وكل ذلك باعتراف الفريقين كما مر في الفقرات السابقة قريبا. فليس مثل هذا الخلاف مما يجعل فرقة واحدة فرقتين مستقلتين.
٤ - الرابع: أنه لو عد مثل هذا الخلاف حاجزا دون كونه فرقة ما فرقة واحدة لما صح أن تعد أية فرقة واحدة قط، لأنه لابد من الاختلاف اليسير فيما بين المنتسبين إلى أية فرقة كالحنفية فيما بينهم، والشافعية فيما بينهم، وكالماتريدية فيما بينهم، وكالأشعرية فيما بينهم، فمثل هذا الخلاف لا يجعل الفرقة فرقتين فما فوق.
قال التاج السبكي (٧٧١هـ): (وما مثل هذه المسائل - يعني مسائل الخلاف بين الماتريدية والأشعرية - إلا مثل مسائل كثيرة اختلف الأشاعرة فيها. .). وقال كمال الدين البياضي الحنفي الماتريدي (١٠٩٨هـ): (الخامسة: أنهم - يعني الماتريدية والأشعرية - متحدوا الأفراد في أصول الاعتقاد وإن وقع الاختلاف في التفاريع بينهما، إذ لا يعد كل من خالف غيره في مسألة ما صاحب مقالة عرفا، وما من مذهب من المذاهب إلا ولأصحابه اختلاف في التفاريع، فلو اعتبر مانعا عن اتحاد الفرقة لم تعد واحدة منها فرقة كما في النحل وغيرها. .) (١).
٥ - الخامس: ما قاله عصام الدين الحنفي الماتريدي (٩٥١هـ): (ولك أن تجعل الماتريدية داخلة فيمن تبعه - أي الأشعري -).
٦ - والسادس: أنه اصطلح المتأخرون على تسمية الفريقين الأشاعرة تغليبا للأشعرية على الماتريدية، وهذا مما يدل على أن الخلاف بين الفريقين لا يمنع أن يكونا فرقة واحدة.
٧ - السابع: أنه قد صرح الحنفية الماتريدية الديوبندية أنهم أشعرية وماتريدية في آن واحد.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الفريقين في الحقيقة فرقة واحدة في المنهج وأصول المعتقد ولا عبرة بالخلافيات، ولذلك قال الحسن بن عبد المحسن أبو عذبة (كان حيا سنة ١١٧٣هـ): (إن طعن بعضهم في بعض لأجل هذه المسائل الخلافية إنما صدر من المقصرين المتعصبين الذين لا اعتداد بأقوالهم، ولم يصدر عن أساطينهم وعظمائهم).
الحاصل: أن الماتريدية والأشعرية فرقة واحدة في المنهج وأصول العقائد مخالفة لسائر الفرق مخالفة جوهرية، وما بينهما من الخلاف لا يمنع من اتحادهما؛ وأنهم زملاء في التتلمذ على مشايخهم الجهمية الأولى والمعتزلة، وأخذهم عنهم تعطيل كثير من الصفات وتحريف نصوصها تحت ستار التنزيه، بل إنهم أشقاء رضعوا من ثدي أم واحدة، ولنعم ما قيل:
رضيعا لبان ثدي أم تحالفا ... بأسحم داج عوض لا نتفرق
وأما ادعاء أن الماتريدية والأشعرية هم أهل السنة، بل إذا أطلق أهل السنة فلا يراد بهم إلا الماتريدية والأشعرية، وأنهما الفرقة الناجية، وأن الماتريدي والأشعري إماما أهل السنة والجماعة وأنهما قاما بنصرة مذهب السلف، فأبو منصور الماتريدي قام بنصرة مذهب أبي حنيفة وبسطه، والأشعري قام بنصرة مذهب مالك والشافعي، ولم يبدعا مقالة ولا مذهبا جديدا إلى آخر ما تقدم في الفقرات رقم (١٠ - ١٥) آنفا- فهذا ما نناقشه ونكشف الستار عن حقيقته - إن شاء الله تعالى - في المبحث الآتي.
في بيان أن الماتريدية وزملاءهم الأشعرية فرقة مبتدعة كلامية من أهل القبلة، وليسوا من أهل السنة المحضة.
(١) ((إشارات المرام)) (ص ٥٢).