للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: هذا الرأي عكس الآراء السابقة من أن الماتريدية أقرب إلى المعتزلة، وأكثر حرية، والحقيقة أنهما سواء في مخالفة العقل والنقل. ٢٠ - وقد رجح عبد العزيز الفريهاري الماتريدي الأشعرية على الماتريدية باعتبار أن الأشعرية أرسخ علوما، ولهم يد طولى في التدقيق، أما الماتريدية فأكثر أدلتهم من قبيل الإقناعات ولذلك يسمى مجموع الفريقين (الأشاعرة) تغليبا لاسم الأشعري لأنه أشهر، وأكثر علما بالدقائق والدلائل (١).٢١ - يرى الشيخ أحمد عصام الكاتب: أن موقف أبي منصور الماتريدي وموقف أبي الحسن الأشعري وموقف أصحاب الحديث من الصفات وآياتها وأحاديثها موقف واحد وهو إثباتها بلا كيف (٢).

قلت: أما قوله: (إن موقف الأشعري، وموقف السلف من الصفات واحد) فحق كما يظهر من (إبانته)، و (مقالاته)؛ وإن الأشعرية ولاسيما المتأخرة - خالفوا إمامهم، وانتسبوا إليه زورا وهو بريء منهم.

وأما قوله: (إن موقف الماتريدي من الصفات، وموقف السلف واحد) - فخلاف الواقع؛ فأبو منصور الماتريدي ينكر علو الله تعالى، ويقول: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وهذا مخالف لبداهة العقل وشرائع الأنبياء، وهذا قول بأن الله تعالى غير موجود أصلا؛ ويؤول صفة العلو والفوقية إلى فوقية القهر والاستيلاء وتعاليه عن الأمكنة وعلو القهر؛ ويؤول صفة الاستواء إلى الاستيلاء؛ ويؤول صفة العين إلى الحفظ والرعاية والإعلام والأمر والوحي والنظر؛ ويؤول صفة اليد إلى النعمة أو القدرة، ويزعم: أن موسى عليه السلام لم يسمع كلام الله وإنما أسمعه بلسان موسى وبحروف خلقها، وصوت أنشاه؛ ويقول في مسألة رؤية المؤمنين لربهم: (بل يرى بلا وصف. . اتصال وانفصال ومقابلة ومدابرة، وساكن ومتحرك، ومماس ومبائن، وخارج وداخل).

فأنت ترى كلام أبي منصور الماتريدي هذا في الرؤية ينفي حقيقة الرؤية، ويجعلها مستحيلة، كما يتضمن كلامه هذا نفي علو الله تعالى، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولذلك ذكره شيخ الإسلام فيمن سلكوا أصول الجهمية.

فهذه نماذج من عقيدته وتعطيله وتحريفه للنصوص؛ فهل يجوز لأحد بعد هذا أن يقول: إن موقفه من الصفات مثل موقف السلف وهو إثباتها بلا كيف؟ فالشيخ أحمد عصام الكاتب - حفظه الله - قد أبعد النجعة إذ خبره على نقيض المخبر سامحه الله.

والحاصل: أن الماتريدية والأشعرية فرقة واحدة من ناحية المعتقد أو كادتا أن تكونا فرقة واحدة على أقل تقدير، وما بينهما من الخلاف فهو يسير وغالبه لفظي، وهما واسطة بين أهل السنة والجهمية الأولى والمعتزلة، كما أنهما من المعطلة، وهذا الذي قلناه، نبرهن عليه الآن في الفائدة الثالثة إن شاء الله تعالى.

الفائدة الثالثة:

في أن الفريقين في الحقيقة فرقة واحدة في المنهج والأصول.

لقد تبين للقراء من الفقرات التي مرت بأرقام (١ - ١٥) آنفا في نتائج بحوث الذين قاموا بالموازنة بين الماتريدية والأِشعرية - وهؤلاء من الفريقين أنفسهما - أن الماتريدية والأشعرية في الحقيقة فرقة واحدة متفقة في المنهج وأصول المذهب، وأنهما مخالفتان لسائر الفرق في الأصول مخالفة كبيرة، وأنه يعبر عن الفريقين بالأشاعرة تغليبا للأشعرية على الماتريدية، وأنهما هم أهل السنة والجماعة بل المراد من أهل السنة والجماعة هم الماتريدية والأشعرية، وأنهما الفرقة الناجية - على زعمهم - ولا شك أن أهل السنة والجماعة طائفة واحدة، كما أن الناجية ليست إلا واحدة لا اثنتين فصاعدا.


(١) انظر ((النبراس)) (١٨٣، ٢٢٩)، وإليه يرمي كلام الشعراني في ((اليواقيت)) (١/ ٣).
(٢) ((عقيدة التوحيد في فتح الباري)) (١٠٦، ١٠٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>