للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واحتج الماتريدي على المعتزلة والجهمية الأولى الذين يزعمون أن إثبات الصفات تشبيه فذكر لهم أن إثبات الصفات وإن كان في بادئ النظر تشبيهاً ولكن نهايته توحيد وتنزيه فنفي الصفات تعطيل، وإثباتها تشبيه، ولكن إذا قلنا: "عالم وقادر لا كالعلماء والقادرين" هذا يزيل شبهة التشبيه. فمن نص كلام الماتريدي: "والأصل في حرف التوحيد أن ابتداءه تشبيه وانتهاءه توحيد ... فقيل عالم وقادر، ونحو ذلك، إذ في الإمساك عن ذلك تعطيل، وفي تحقيق المعنى في خلقه تشبيه، فوصل به "لا كالعلماء، ونحوه" ليجعل نفي التشبيه ضمن الإثبات: فهذا فيما ألزمت ضرورة العقل القول به والسمع جميعاً" (١).وقال أبو منصور الماتريدي أيضاً في الاحتجاج على الجهمية الأولى: "ثم الوصف لله بأنه قادر عالم كريم جواد، والتسمية بها حق من السمع والعقل جميعاً ... ؛ إلا أن قوماً وجهوا تلك الأسماء إلى غيره ظناً منهم أن في إثبات الاسم تشابهاً بينه وبين كل مسمى. ولو كان به ذلك لكان بنفي التعطيل ذلك، وبنفيه أيضاً تشابه وبين مالا يدخل تحت اسم ... " (٢).

قلت: هلا يسير الماتريدي، والماتريدية هذا المنهج في مثل علو الله واستوائه ونزوله ويده وغيرها؟ وقال: "ثم الدليل على ما قلنا مجيء الرسل والكتب السماوية بها ولو كان في التسمية بما جاءت به الرسل تشبيه لكانوا سبب نقص التوحيد، وهم جميعاً دعوا إلى عبادة الواحد وإلى معرفة وحدانية الباري. لم يجز أن يكون ذلك - أي إثبات الصفات- مما يحقق العدد، ويثبت الموافقة للخلق، ولا قوة إلا بالله" (٣).

قلت: تدبر كلام هذا الرجل كيف احتج على الجهمية الأولى حجة أهل السنة؟ مع أن هذه الحجة تنقلب حجة عليه، وعلى أتباعه الماتريدية جميعاً أيضاً فيما نفوه من الصفات كالعلو والاستواء والنزول والغضب والرضى واليدين وغيرها فكان ينبغي لهم أن ينهجوا منهج السلف في جميع الصفات لئلا يقعوا في تناقض فاضح، واعتراف واضح.٢ - ولقد أقحم شيخ الإسلام هؤلاء الماتريدية والأشعرية لما ادعوا أن أثبات العلو والاستواء والنزول وغيرها يستلزم التشبيه - في تلك المناظرة المشهورة التي عقدت حول العقيدة الواسطية فكلهم سكتوا وبهتوا وكان يوماً مشهوداً حضرها الأمراء وكبار الأشعرية وأعداء شيخ الإسلام وقد أظهر من قيام الحجة وبيان المحجة- ما أعز الله به السنة والجماعة، وأرغم به أهل البدعة والضلالة قاله شيخ الإسلام (٤).

ولما تشبثوا بشبهات وأخذوا يذكرون نفي التشبيه والتجسيم ويطنبون في هذا-

قال لهم شيخ الإسلام:

"قولي: "من غير تكييف، ولا تمثيل" ينفي كل باطل وإنما أخذتُ هذين الاسمين لأن "التكييف" مأثور نفيه عن السلف كما قال ربيعة ومالك وابن عيينة وغيرهم المقالة التي تلقاها العلماء بالقبول: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". فاتفق هؤلاء السلف على أن الكيف غير معلوم لنا؛ فنفيتُ اتباعاً لسلف الأمة، وهو أيضاً منفي بالنص تأويل آيات الصفات يدخل فيها حقيقة الموصوف، وحقيقة صفاته، وهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله كما قرر ذلك في قاعدة مفردة ذكرتها في التأويل، والمعنى، والفرق بين علمنا بمعنى الكلام وبين علمنا بتأويله.

وكذلك "التمثيل" يُنفي بالنص والإجماع القديم، مع دلالة العقل على نفيه، ونفي التكييف إذ كنه الباري تعالى غير معلوم للبشر.


(١) ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص٤٢).
(٢) ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص ٤٤)، وانظر (ص ٩٣ - ٩٤).
(٣) ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص ٩٤).
(٤) انظر ((مناظرة الواسطية ضمن العقود الدرية)) لابن عبدالهادي (ص ١٥٤)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (٣/ ١٨٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>