وإذا أقر به فسله ثانيا ... أتراه غير جميع ذي الأكوان؟
فإذا نفى هذا وقال بأنه ... هو عينها ما ههنا غيران
فقد ارتدى بالاتحاد مصرحاً ... بالكفر جاحدً ربه الرحمن
حاشا النصارى أن يكونوا مثله ... وهم الحمير وعابدُوا الصلبان
هم حصصوه بالمسيح وأمه ... وأولاء ما صانوه عن حيوان
وإذا أقرّ بأنه غير الورى ... عبدٌ ومعبودٌ هما شيئان
فاسأله: هل هذا الورى في ذاته ... أم ذاته فيها هنا أمران
وإذا أقرّ بواحد من ذينك الـ ... أمرين قَبَّلَ خدَّه النصراني
ويقول: أهلاً بالذي هو مثلنا ... خشداشنا وحبيبنا الحقاني
وإذا نفى الأمرين فسأله إذاً ... هل ذاته استغنت عن الأكوان؟
فلذلك قام بنفسه أم قام بالـ ... أعيان كالأعراض والألوان؟
فإذا أقر وقال: بل هو قائم ... بالنفس، فاسأله وقل ذاتان
إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
الوجه الثالث:
ما ساقه أربعة من الشهود العدول من كبار الحنفية وهم الإمام ابن أبي العز (٧٩٢هـ) والعلامة محمود الآلوسي (١٢٧٠هـ)، وابنه نعمان الآلوسي (١٣١٧هـ) وحفيده شكرى الألوسي (١٣٤٢هـ) واللفظ للأول.
"من سمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام السلف - وجد منه في إثبات "الفوقية" ما لا ينحصر.
ولا ريب أن الله تعالى لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة - تعالى الله عن ذلك -؛ فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته.
ولو لم يتصف سبحانه "بفوقية الذات" - مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم لكان متصفاً بضد ذلك؛ وضد "الفوقية"،"السفول" وهو مذموم على الإطلاق؛ لأنه مستقر "إبليس" وأتباعه وجنوده.
فإن قيل: لا نسلم أنه قابل "للفوقية" حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدهاً.
قيل: لو لم يكن قابلاً "للعلو والفوقية" - لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها.
فمتى أقررتم أنه ذات قائم بنفسه، غير محاط للعالم، وأنه موجود في الخارج وليس وجوده ذهنياً فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً.
وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة: أن ما كان وجوده كذلك - فهو إما داخل العالم، وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر من الأمور البديهيات بل الضرورية بلا ريب؛ فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح وأبين.
وإذا كان "صفةُ العلوِ والفوقية" صفة كمال لا نقص فيه، ولا يستلزم نقصاً ولا يوجب محذوراً ولا يخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً. فنفي حقيقته يكون عين الباطل والمحال الذي لا تأتي به شريعة أصلاً. فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده، وتصديق رسله والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله - صلوات الله عليهم وسلامه - إلا بذلك؟.فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة، والفطر المستقيمة، والنصوص الواردة المتنوعة على "علو الله" على خلقه، وكونه، فوق عباده التي تقرب من عشرين نوعاً ... " (١).
شبهة والجواب عنها:
هذه الوجوه العقلية التي ذكرناها لبيان أن الماتريدية كابروا بداهة العقل الصريح في نفيهم لعلو الله تعالى، وقولهم: "إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا فوقه ولا تحته"، وشُدَّ الخناقُ عليهم - فلم يجدوا عنها جواباً، ولا للخروج عنها باباً، وكان الواجب عليهم أن يذعنوا للنقل الصحيح ولا يكابروا العقل الصريح، ولكنهم ازدادوا في المكابرة للعقل الصريح مكابرةً على مكابرةٍ فحكموا على هذه الوجوه العقلية الصريحة البديهية بأنها وهمية.
أما هذيانهم من أن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت فهو من القطعيات العقليات اليقينيات، فقالوا،
(١) ((شرح الطحاوية)) (ص ٣١٨ - ٣١٩، ٣٢٥)، ((روح المعاني)) (٧/ ١١٥)، ((جلاء العينين)) (ص ٣٥٦، ٣٥٧، ٣٨٧، ٣٨٨)، ((غاية الأماني)) (١/ ٤٤٥).