للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"واحتج المخالف - (يعنون سلف هذه الأمة وأئمة السنة) - بالنصوص الظاهرة في الجهة والجسمية والصورة والجوارح - يعنون علو الله تعالى ووجهه ويديه سبحانه وتعالى - وبأن كل موجودين فرضاً لابد أن يكون أحدهما متصلاً بالآخر مُمَاسّاً له، أو منفصلاً عنه مبايناً في الجهة والله تعالى ليس حالاً ولا محلاً للعالم فيكون مبايناً للعالم. والجواب: أن ذلك وهم محض ... " (١).

قلت: واعجباً لهؤلاء المتكلمين يحكمون على القضايا الصادقة العقلية الصريحة الضرورية البديهية الموافقة للنصوص المحكمة الصحيحة بأنها قضايا وهميةٌ كاذبةٌ: أما حماقاتهم وجهلياتهم وخزعبلاتهم وشبهاتهم الواهية التي أوهى من بيت العنكبوت وهي في نفسها كاذبة بل من قبيل المستحيلات الممتنعات فهي عندهم براهين عقلية قاطعة يقينية حاكمة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصوص سلف هذه الأمة وأئمة السنة.

كقولهم: "إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا فوقه ولا تحته".وكقولهم الآخر العميق في الحماقة: "إنه لا خلاء ولا ملاء وراء العالم" (٢).

ولذلك يقول شيخ الإسلام في بيان حماقات المتكلمين ومكابرتهم للعقل الصريح ومناقضتهم للنقل الصحيح وخروجهم على الإجماع المحقق وإكراههم أنفسهم ضد الفطرة:

" ... وأن ما عارض أخباره من الأمور التي يحتج بها المعارضون ويسمونها "عقليات" أو "برهانيات" ... أو "مشاهدات" أو نحو ذلك من الأمور "الدّهاشات" أو يسمون ذلك "تحقيقاً" أو "توحيداً" أو "عرفاناً" أو "حكمة حقيقية" أو "فلسفة" أو "معارف يقينة" ونحو ذلك من الأسماء التي يسميها أصحابها -

فنحن نعلم علماً يقينياً لا يحتمل النقيض: أن تلك "جهلياتٌ" و"ضلالاتٌ" و"خيالاتٌ" و"شبهاتٌ مكذوباتٌ" و"حججٌ سوفسطائيةٌ" و "أوهامٌ فاسدةٌ".وأن تلك الأسماء ليست مطابقة لمسماها، بل هي من جنس تسمية الأوثان "آلهة" وتسمية "مسيلمة الكذابِ" وأمثالهِ "أنبياء" ... " (٣).

والحقيقة أن هؤلاء المتكلمين وإن حكموا بلسانهم أن حجج فوقية الله تعالى وهميةٌ؛ ولكنهم ليسوا مقتنعين مطمئنين بذلك في قلوبهم فقلوبهم تناقض ما يجري على ألسنتهم من الإنكار والعناد والمكابرة، وقلوبهم تشهد على "علو الله".

قال شيخ الإسلام: "وكل هؤلاء يجد نفسه مضطربة في هذا الاعتقاد في نفسه وإنما يَسِكّنُ بعضَ اضطرابه نوع تقليد لمعظم عنده، أو خوفه من مخالفة أصحابه أو زعمه، أن حكم الوهم، والخيال، دون العقل.

وهذا التناقض في إثبات هذا الموجود الذي ليس بخارج عن العالم، ولا هو العالم الذي ترده فطرهم وشهودهم، وعقولهم.

غير ما في الفطرة من الإقرار بصانع فوق العالم؛ فإن هذا إقرار الفطرة بالحق المعروف، وذلك إنكار الفطرة بالباطل المنكر ... " (٤).

قلت: ولله رد شيخ الإسلام ما أصدقه وما أنور فراسته، فلقد اعترف الغزالي (٥٠٥هـ) بهذه الحقيقة التي ذكرها شيخ الإسلام، من حيث لا يشعر.


(١) ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص ٤٢)، و ((شرح المواقف)) للجرجاني (٨/ ٢٢ - ٢٣)، و ((حاشية حسن الجلبي "الشلبي" على شرح المواقف)) (٨/ ٢٢)، و ((حاشية الكستلي على شرح التفتازاني للعقائد النسفية)) (ص ٧٤)، و ((حاشية أحمد الجندي عليه أيضاً)) (ص ١٠١)، و ((النبراس)) للفريهاري (ص ١٨٤). وانظر من كتب الأشعرية: ((المستصفي)) للغزالي (١/ ٤٦ - ٤٧)، و ((المواقف)) للإيجي (ص ٢٧٢).
(٢) انظر ((المستصفى)) للغزالي (١/ ٤٧)، و ((النبراس)) للفريهاري الماتريدي (ص ١٨٤) وراجع لتعريف الخلاء ((تعريفات الجرجاني)) (ص ١٣٥).
(٣) ((درء التعارض)) (٥/ ٢٥٥ - ٢٥٦).
(٤) ((نقض المنطق)) (ص ٥١)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (٤/ ٦٠ - ٦١).

<<  <  ج: ص:  >  >>