للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن ما يلوكونه بألسنتهم من وساوس فلسفية ودسائس كلامية من لزوم "المكان" و"الحيز" و"الجهة" و"التحيز" وكونه "محدوداً" "محاطاً" ونحوه -

تقدم الجواب عن ذلك في المبحث الأخير من الفصل السابق.

الناحية الثالثة:

أن ما تشبثوا به من أن "الاستواء" فعل حادث وليس من صفات الله تعالى، لئلا يلزم حلول الحوادث بذات الله تعالى.

فقد تقدم الرد عليه وبينا أن صفات الأفعال صفات الله تعالى قائمة به سبحانه، تتجدد آحادها، ونوعها قديم، على أن القول بحلول الحوادث لازم لهم يشعرون أم لا يشعرون؟ وقد اعترف بذلك بعض أساطينهم.

وهذا مبني على أصلهم من نفي قيام الأفعال الاختيارية به تعالى وجعل أفعاله اللازمة كأفعاله المتعدية، فكل ذلك عند هؤلاء الماتريدية والأشعرية مفعول منفصل عن الله تعالى.

الأول: جعل الفعل من المخلوقات: والثاني: نفيهم قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى التي هي صفاته الفعلية التي تتعلق بمشيئته وقدرته، وقولهم مخالف لمذهب أهل السنة (١).قلت: كان المفروض أن يكون الماتريدية موافقين لأهل السنة في هذا لقولهم بالتكوين وقولهم بأن المكون، غير التكوين (٢).وهذا القول موافق في الجملة لأهل السنة في قولهم: إن الخالق غير المخلوق كما صرح به شيخ الإسلام (٣) لكن الذي أوقعهم في البدعة الشنيعة ونفي قيام الصفات الاختيارية به تعالى قولهم: إن صفة "التكوين" صفة واحدة قديمة أزلية، وأن جميع ما يتعلق بما فهو متعلقات التكوين، وليست صفات حقيقية وإلا لزم قيام الحوادث به تعالى وكذا لزم منه تكثير القدماء جداً.

وقد بينا أن الفريقين من الماتريدية والأشعرية كلاهما على الباطل المحض وكلامهم يتضمن التعطيل المبين.

الناحية الرابعة:

أن ما تمسكوا به من شهبة "التغيير"-

نقول في الجواب عنها: إن هذه اللفظة "التغيير" من الألفاظ المجملة المتشابهة الكلامية التي تحتمل حقاً وباطلاً.

وقد ذكرنا قاعدة أئمة السنة في مثل هذه الكلمات. وقد قال إمام أهل السنة في المتكلمين وكلماتهم المجملة المتشابهة المهولة المدهشة: "يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويلبسون على جهال الناس ما يشبهون عليهم" (٤).

فنقول في ضوء هذه القاعدة ما قال شيخ الإسلام بعد ما ذكر اعتراف الرازي:

"وإيضاح ذلك: أن لفظ "التغيير" لفظ مجمل.

فالتغيير "في اللغة المعروفة لا يراد به مجرد كون محل قامت به الحوادث فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب - إذا تحركت - إنها قد تغيرت،

ولا يقولون: للإنسان - إذا تكلم ومشى - إنه تغير.

ولا يقولون: - إذا طاف وصلى وأمر ونهى وركب - إنه تغير إذا كان ذلك عادته.

بل إنما يقولون: "تغير" لمن استحال من صفة إلى صفة.

كالشمس إذا ما زال نورها ظاهراً - لا يقال: إنها تغيرت.

فإذا اصفرت - قيل: قد تغيرت.

وكذلك الإنسان إذا مرض، أو تغير بجوع أو تعب - قيل: قد تغير.

وكذلك إذا تغير خلقه ودينه، مثل أن يكون فاجرا فيتوب ويصير براً، أو يكون براً فينقلب فاجراً -

فإنه يقال: قد تغير ....

وإذا كان هذا معنى "التغيير" فالرب تعالى لم يزل ولا يزال موصوفاً، بصفات الكمال منعوتاً بنعوت الجلال والإكرام، وكمالاته لوازم ذاته فيمتنع أن يزول عنه شيء من صفات كماله، ويمتنع أن يصير ناقصاً بعد كماله.


(١) انظر: ((شرح حديث النزول)) (ص٤٢ – ٤٣، ٤٧)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (٥/ ٣٧٨ - ٣٧٩، ٣٨٦).
(٢) انظر: ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص ٤٧ - ٤٩)، ((البداية)) للصابوني (ص ٦٧ - ٧٣)، و ((العقائد النسفية مع شرحها)) للتفتازاني (ص ٦٦ - ٦٧).
(٣) انظر ((شرح حدث النزول)) (ص ٤٢)، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (٥/ ٣٧٩).
(٤) ((بيان تلبيس الجهمية)) (١/ ١٠٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>