وهي شبهة قديمة للجهمية الأولى واستمرت في أذهان المعطلة إلى يومنا هذا.
وهذا هو الدافع للمعطلة على تعطيل صفات الله تعالى وتحريف ونصوصها.
ثانياً: نقول: إن ما تشبثوا به - من شبهة أن "اليدين" و"اليد" و"الأصابع" ونحوها جوارح وأعضاء.
فلو أثبتنا ذلك لله تعالى يلزم كونه متجزياً متبعضاً متركباً ذا أبعاض وجوارح وأعضاء - باطلٌ قطعاً.
لما ذكرنا أن كل صفة إذا أضيفت إلى موصوفٍ فهي على ما تناسبه وتستحقه وتلائمه حتى باعترافهم.
ومن المعلوم أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام وهي أبعاض لنا، كالوجه، واليدين والرجلين، ونحوها.
ومنها ما هي معانٍ وأعراضٌ لنا.
كالسمع والبصر والكلام ونحوها.
ونحن وأنتم متفقون على أن "علم الله تعالى" و"بصره" و"سمعه" و"كلامه" ونحوها صفاتٌ لله تعالى وليست أعراضاً له تعالى.
فكذلك قولوا: في "الوجه" و"اليدين" و"الأصابع" ونحوها: إنها صفاتٌ لله تعالى وليست أجساماً ولا جوارح ولا أبعاضاً وأعضاء له سبحانه وتعالى.
وإلا يلزمكم أن تقولوا: إن "سمع الله تعالى"، و"بصره" و"علمه" و"قدرته" ونحوها أعراضٌ قائمةٌ بالله تعالى.
فإذا كنتم لا تعطلون تلك - فلم تعطلون هذه؟.
وإذا عطلتم هذه - يلزمكم أن تعطلوا تلك أيضاً.
لأن الشبهة المذكورة قائمة من النوعين على السواء:
ثالثاً: نقول: لقد بينا تفصيلاً في فصل التأويل أن مقالة تأويل الصفات بدعة في الإسلام وخروج على إجماع سلف هذه الأمة وأئمة السنة، وأنها في الأصل مقالة الكفار راجت على بعض المسلمين من طريق الجهمية الأولى، وأنها تستلزم تعطيل صفات الله تعالى وتحريف نصوصها، وأنها باب إلى زندقة القرامطة الباطنية وإلحادهم، مع كون تعطيل صفات الله تعالى وتحريف نصوصها زندقةً وإلحاداً أيضاً.
وأما المناقشة التفصيلية:
فنقف فيها مع الماتريدية وقفات:
الوقفة الأولى:
أننا قد ذكرنا نصوص الإمام أبي حنيفة (١٥٠هـ) وكبار أئمة الماتريدية، كفخر الإسلام البزدوي (٤٨٢هـ) وشمس الأئمة السرخسي (٤٩٠هـ) وحافظ الدين النسفي (٧١٠هـ) وعلاء الدين البخاري (٧٣٠هـ) وأبو المنتهى المغنيساوى (كان حيا سنة (٩٣٩هـ) والملا على القاري (١٠١٤هـ) وشيخ زاده (١٠٧٨هـ) والعلامة الكشميري (١٣٥٢هـ) على أن تأويل "اليد" بالقدرة أو بالنعمة، يستلزم محذورين:
أحدهما: أنه قول أهل القدر والاعتزال، وليس من قول أهل السنة في شيء.
ثانيهما: أنه إبطال لصفة الله تعالى "اليد" وهو تعطيل وتحريف.
فلا حاجة إلى إعادتها.
وفي ذلك عبرة بالغة للماتريدية لو كانوا يعلمون.
فإن نصوص الأئمة الحنفية وعلى رأسهم الإمام أبو حنيفة صريحة بأن من أول صفةً بصفةٍ أخرى فقط عطل وحرف وخرج من أهل السنة والجماعة والتحق بالجهمية.
فهل يمكن لأحد أن يعد الماتريدية وخلطائهم في عداد أهل السنة والجماعة؟؟.
الوقفة الثانية:
أن الماتريدية وزملاءهم الأشعرية اشترطوا في صحة التأويل أن يكون موافقاً للغة العربية وإلا يكون تحريفاً قرمطياً محضاً.
فنقول لهم: في ضوء اعترافهم أن تأويلاتكم لصفة "اليدين" ونحوها، وتحريفها إلى النعمة والقدرة ونحوها، من قبيل تأويلات الباطنية، ولا تساعدها اللغةُ البتة. بل ورود الكف، والأصابع، والقبضة، واليمين، ولفظ اليدين بصيغة التثنية، ولفظة "بيدي" بعد لفظة "خلقت" يمنع إرادة التأويل ويدفع المجاز ويعين إرادة الحقيقة بلا شك.
ولأجل هذه النكتة استدل أئمة السنة بعدة أحاديث على إثبات اليدين حقيقةً لله تعالى ()، فإنه لم يرد لفظه "اليد" فقط بل ورد معها ما يتعلق باليد من الكف، والقبضة، والأصابع، واليمين، كما ورد "اليدان" بصيغة التثنية.
ولا يقال في اللغة العربية: "علمته بيديّ" إلا إذا باشر ذلك العمل بيديه.