للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالساكت هو الساكت عن الكلام، والأخرس هو العاجز عنه.

أو الذي حصلت له آفة في محل النطق تمنعه عن الكلام.

وحينئذ فلا يعرف الساكت والأخرس حتى يعرف الكلام ولا يعرف الكلام حتى يعرف الساكت والأخرس، فتبين أنهم لم يتصوروا ما قالوه ولم يثبتوه.

بل هم في "الكلام" يشبهون النصارى في "الكلمة".

وما قالوه في "الأقاليم" و"التثليث" و"الاتحاد".

فإنهم يقولون: ما لا يتصورونه ولا يبينونه،

والرسل عليهم السلام إذا أخبروا بشيء ولم نتصوره وجب تصديقهم.

وأما ما يثبت بالعقل فلابد أن يتصوره العاقل به، وإلا كان قد تكلم بلا علم، فالنصارى تتكلم بلا علم، فكان كلامهم متناقضاً ولم يحصل لهم قول معقول. كذلك من تكلم في كلام الله بلا علم كان كلامه متناقضاً، ولم يحصل له قول يعقل، ولهذا كان مما يشنع به على هؤلاء أنهم احتجوا في أصل دينهم ومعرفة حقيقة الكلام - كلام الله وكلام جميع الخلق - بقول شاعر نصراني يقال له الأخطل ... " (١).قلتُ: لقد صدق شيخ الإسلام المطلع على أقوال المتكلمين - فقد اعترف الآمدي (٦٣١هـ) الذي لقبوه بسيف الدين: بأن الجواب عن الإشكالات الواردة على الكلام النفسي مشكل (٢).

وهكذا حال الماتريدية في تناقضهم واضطرابهم وعجزهم عن إقامة حجة صحيحة على "الكلام النفسي".

ويشهد لما ذكرناه ما يلي من الأمور:

الأول: أن الجرجاني (٨١٦هـ) قد فر من إثبات الكلام النفسي بالمعنى الذي تريده عامة الماتريدية واختار ما اختاره الإيجي (٧٥٦هـ) الأشعري الذي أحس أن إثبات الكلام النفسي صعبٌ دونه خرط القتاد فخالفهم في تفسير كلام الأشعري حول الكلام النفسي واعترف بالكلام اللفظي وقال: "هذا الذي فهموه من كلام الشيخ الأشعري باطل إذ له لوازم باطلة كثيرةٌ".

ثم ذكر عدة من تلك اللوازم الباطلة العاطلة منها:

أ- عدم إكفار من أنكر كلاميّة ما بين دفتي المصحف مع أنه علم من الدين بالضرورة كونه كلام الله حقيقة.

ب- عدم المعارضة والتحدي بكلام الله الحقيقي.

ج- ذم كون المقروء والمحفوظ كلامه حقيقة.

ثم قال الجرجاني: "إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطن فوجب حمل كلام الشيخ الأشعري على المعنى الثاني الشامل للفظ والمعنى".

ثم قال: "هذا الذي ذكرناه وإن كان مخالفاً لما عليه متأخروا أصحابنا إلا أنه بعد التأمل تعرف حقيقته".

ثم قال الجرجاني مقرراً لمقالة الإيجي ومجرجراً:

"وهذا المجمل لكلام الشيخ مما اختاره الشيخ محمد الشهرستاني (٥٤٨هـ) في كتابه المسمى بـ"نهاية الأقدام"،ولا شبهة في أنه أقرب إلى الأحكام الظاهرية المنسوبة إلى الملة" (٣).الثاني: أنه قد نقل عبارة الجرجاني هذه الشيخ عصام الدين الإسفراييني (٩٥١هـ) فقد أسفر عن الاضطراب وضعفهم عن إقامة الحجة على إثبات الكلام النفسي واعترف بما اعترف به الجرجاني، فقال: "ولا شبهة في كونه أقرب ... " (٤).


(١) ((مجموع الفتاوى)) (٦/ ٢٩٥ - ٢٩٦)، وانظر ((مختصر الصواعق المرسلة)) (٢/ ٤٢٦ - ٤٢٧)، الطبعة الجديدة و (٢/ ٢٩٠ - ٢٩٢)، الطبعة القديمة.
(٢) كما في ((درء التعارض)) (٤/ ١١٩)، و ((مجموع الفتاوى)) (٦/ ٢٢١)، والآمدي قال ذلك في كتابه المشهور ((أبكار الأفكار)) (١/ ٩٨/أ)، ((مخطوط دار الكتب المصرية برقم ١٦٠٣، علم الكلام كما في تعليق الدكتور محمد رشاد سالم على درء التعارض)) (١/ ١٦٤).
(٣) انظر: ((شرح المواقف)) (٨/ ١٠٣ - ١٠٤)، وقد نقل الجرجاني مقالة الإيجي عن مقالته المفردة ولم أجدها في المواقف وراجع ((نهاية الإقدام)) (ص ٣١٢ - ٣١٣).
(٤) ((حاشية العصام على ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص ١١٨ - ١٨٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>