المُمِضِّ ثم يرون أنهم بعد ذلك كله لم يظفروا إلا بالعدد القليل من المؤمنين، وفيه إلى جانب هذه التعزية إرشاد لأصحاب الدعوات أن تكون وجهتهم في التكوين أولًا الكيف لا الكم، والإيمان الصادق بالمبدأ والعقيدة، لا العدد الكثير الذي لا يغني شيئًا، ولهذا قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شطر مدة الدعوة في مكة يتخير لها الأكفاء حتى مكث مدة طويلة ولمّا يبلغ أصحابه الأربعين ولكن الرجل منهم كان أمة وحده.
ومنها: إرشاد المؤمنين إلى وجوب حياطة إيمانهم بصلاح العمل ومجاهد النفس وسد الذرائع والبعد عن الشبهات واتباع سبيل الله حتى لا ينتكسوا ويعودوا بعد الإيمان الكامل إلى مرتبة دون هذه المرتبة، وأكثر ما يكون ذلك إذا قلدوا غيرهم من الأمم وسلكوا سبيل سواهم ممن لا يدين دينهم ولا يعتقد عقيدتهم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: ١٠٠ - ١٠١].
وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن الإيمان لا يكون كاملًا حقيقيًّا إلا إذا اعتقد المؤمن أن هذا القرآن حق نزل من عند الله ثم عمل على إنفاذه وجعله حكمًا على نفسه والله أعلم (١).
٢ - وفي تفسير قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (٦)} [الرعد: ٦] قال الشيخ البنا رحمه الله: "بعد أن فصلت الآيات السابقة مظاهر قدرة الله تبارك وتعالى وأدلة عظمته وعجائب صنعه في الكون، ذكرت الشبهات التي يتذرع بها الجاحدون في إنكار نبوة الأنبياء، ويبررون بها انصرافهم عما جاء به الرسل الكرام من الهدى والنور. ومن هذه الشبهات استبعاد أمر البعث والخلق الجديد بعد
(١) مجلة المنار -مجلد ٣٥ - جزء (٥) في غرة جمادى الثانية سنة ١٣٥٨ هـ - ١٨ يوليو سنة ١٩٣٩.