ثم يقول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣)} [النحل: ١٢٣].
ففي هذه الآيات الكريمات ذكر الله لخليله عليه السلام أوصافًا كثيرة وفضائل متعددة كان آخرها قوله سبحانه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣)} فهذا ترتيب تصاعدي. فإن الصفات الطيبة التي ذكرت لأبي الأنبياء وشيخ الحنفاء عليه السلام من كونه أمة قانتًا كان أفضلها وخيرها وأشرفها وأدلها على الفضل قول الله تبارك وتعالى:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} فالوحي إلى سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يتبع ملة إبراهيم أعظم شرفًا من كل ما تقدم، فيكفي الخليل فخرًا بعدما ذكره الله من صفاته الشخصية أن يوحي إلى نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يتبع ملة إبراهيم. وقد يكون الترتيب صالحًا للأمرين معًا، وأمثل لذلك بما جاء في سورة الفجر في قوله سبحانه: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمَال حُبًّا جَمًّا (٢٠)} [الفجر: ١٧ - ٢٠]، فهذه صفاتهم التي روعوا من أجلها في قوله بعد ذلك {كَلَّا} يمكن أن يكون الترتيب فيها تنازليًا أو تصاعديًا ولا تناقض في هذا. إذا اعتبرنا القلة والكثرة كان تصاعديًا، فإن عدم الحض على طعام المسكين لا شك أعم وأكثر من عدم إكرام اليتيم، فإن المساكين أكثر من اليتامى ثم إن أكل التراث أكثر شيوعًا، ثم إن حب المال لا يكاد يخلو منه أحد.
ويمكن أن يكون الترتيب غير هذا من حيث بشاعة الفعل، فإن أسوأ هذه الصفات إيذاء اليتامى وهكذا حتى تنتهي هذه الصفات. ونرجو الله أن يغفر لصاحب أضواء البيان وأن يجمعه مع الزمخشري في جنات الرضوان، وأن يجمعنا وأحبابنا وقراء هذا الكتاب معهم إن شاء الله.
- وعند تفسير قوله تعالى:{وَقَالوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا}[فصلت: ٥] ينقل صاحب "الأضواء" -رحمه الله- كلام الزمخشري وهو: "فإن قلت: هل لزيادة (من)