للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يؤلف كتابًا يذكر فيه حجج النصارى على المسلمين فإذا صار في الردّ عليهم تجوز في الحجة كأنه إنما أراد تنبيههم على ما لا يعرفون وتشكيك الضعفة من المسلمين! (١) ولا أدري كيف سمح صاحب هذا النقد على جلالة قدره وسمو علمه أن يسجله على نفسه، وهو يعلم أن كتاب الردّ على النصارى معروف متداول في عهده، ولا سبيل إلى ثلمه بهذه الغميزة البلقاء وقد أبقتا الأيام لنا جزءًا كبيرًا منه، فيسّر لنا أن نعصف بهذه الفرية إلى حيث تهوي بها الريح.

بل إن ابن قتيبة إذا راجع منصفًا قول الجاحظ في ردّه ذاك لأدرك على الفور مقصده من شرح آراء خصومه شرحًا وافيًا بليغًا كيلا يدع بعد قوله مجالًا لمتخرص يتشبث بمأخذ، وهذا ما عناه إذ قال في دفاعه (وليعلم من قرأ هذا الكتاب وتدبر هذا الجواب، أننا لم نغتنم عجزهم، ولم ننتهز غرتهم وأن الإدلال بالحجة والثقة بالفلج والنصرة هو الذي دعانا إلى أن نخبر عنهم بما ليس عندهم) (٢)، وتلك لعمري منزلة من إنصاف الجاحظ ليس بعدها منزلة، وهي فوق دلالتها العقلية على مقدرته البالغة ذات دلالة خلقية بارعة تسمو به فوق الحيل الجدلية وألاعيب التغفل والانتهاز.

ومحل هذا القول في مضمار الحديث عن التفسير البياني للجاحظ أن الرجل لا يترك توسعه الجدلي حين يورد شبه مخالفيه في هذا التفسير، بل يمتد ويفيض ويتسع حتى لا يبقى خلجة تجول في نفس معترض فإذا جلّى آراء مخالفيه بما لا يملكون من سحره الخالب عفي عليها بما يزلزل بناءها من القواعد، ولا أمتع للقارئ من أن ندع الجاحظ يقدّم له مثالًا رائعًا من تفسيره البياني حين تعرض إلى تأويل قول الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} (٣).


(١) تأويل مختلف الحديث ص ٧٢.
(٢) ثلاث رسائل للجاحظ ص ٣٧.
(٣) الحيوان جـ ٢ ص ٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>