للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هضم مجاز القرآن لأبي عبيدة، ووقف على آراء الجاحظ في الحقيقة والمجاز والكناية والتعريض والإطناب والاختصار، وهذا ما نحمده لابن قتيبة، فإنه حين ألم بآراء سابقيه لم يسردها سرد الناقل، ولكنه أحكم تبويب كتابه إحكامًا يدلّ على دقة وبصر، فوضع كل رأى في موضعه المستريح، وهذا ما يجعل كتب الرجل بنوع عام أسهل تناولًا، وأقرب مأخذًا من كتب سابقيه مهما اختلفت النظرة العلمية بها ضيقًا وسعة وتشدّدًا وانطلاقًا، ومن يقارن عيون الأخبار لابن قتيبة بالبيان والتبيين للجاحظ يرى صاحب العيون قد قيد الآبد، وذلّل العسير.

قال ابن قتيبة يتحدث عما حداه إلى تأليف "تأويل مشكل القرآن" (١):

"وقد اعترض كتاب الله بالطعن ملحدون ولغوا فيه وهجروا، واتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله بأفهام كليلة، وأبصار عليلة، ونظر مدخول، فحرفوا الكلم عن مواضعه، وعدلوه عن سبله، ثم قضوا عليه بالتناقض والاستحالة في اللحق وفساد النظم والاختلاف، وأدلوا في ذلك بعلل ولما أمالت الضعيف الغمر، والحدث الغر، واعترضت بالشبه في القلوب، وقدحت بالشكوك في الصدور، ولو كان ما نحلوا إليه على تقديرهم، وتأوّلهم لسبق إلى الطعن به من لم يزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحتج عليه بالقرآن، ويجعله العَلم لنبوّته والدليل على صدقه ويتحداه في موطن بعد موطن على أن يأتي بسورة من مثله، وهم الفصحاء والبلغاء، والخطباء والشعراء، والمخصوصون بين جميع الآنام بالألسنة الحداد، واللدد في الخصام، مع اللب والنهى وأصالة الرأي وقد وصفهم الله بذلك في غير موضع من الكتاب، وكانوا مرة يقولون هو سحر، ومرة يقولون هو قول الكهنة، ومرة أساطير الأولين، ولم يحك الله عنهم ولا بلغنا في شيء من الروايات أنهم جدبوه (٢) من الجهة التي


(١) ص ١٧ تأويل المشكل بتحقيق الأستاذ السيد أحمد صقر.
(٢) أي عابوه وذمّوه.

<<  <  ج: ص:  >  >>