يظهر عليه إلا اللقن (١) وإظهار بعضها وضرب الأمثال لما يخفى، ولو كان القرآن كله ظاهرًا مكشوفًا حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل لبطل التفاضل بين الناس وسقطت المحنة وماتت الخواطر، ومع الحاجة تقع الفكرة والحيلة ومع الكفاية يقع العجز والبلادة ... وكل باب من أبواب العلم من الفقه والحساب والفرائض والنحو، منه ما يجل ومنه ما يدق ليرتقي المتعلم فيه رقبة بعد رتبة حتى يبلغ منتهاه ويدرك أقصاه، وتكون للعالم فضيلة النظر، وحسن الاستخراج، ولتقع المثوبة من الله على حسن العناية، ولو كان كل فن من العلوم شيئًا واحدًا لم يكن عالم ولا متعلم ولا خفي ولا جلي لأن فضائل الأشياء تعرف بأضدادها فالخير يعرف بالشر والنفع بالضر، والحلو بالمر، والقليل بالكثير، والصغير بالكبير والباطن بالظاهر وعلى هذا المثال كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكلام صحابته والتابعين وأشعار الشعراء وكلام الخطباء ليس منه إلّا وقد يأتي فيه المعنى اللطيف الذي يتحير فيه العالم المتقتدم، ويقر بالقصور عنه النقاب المبرز".
ونحن ننقل هذا القول لنناقشه إذ أن الموافقة التامة على ما جاء به مما يتعذر، لأن الله عز وجل لم يأت بما يسمّى بالتشابه في القرآن ليفضل قومًا على قوم فلا يستوي في معرفته العالم والجاهل فيبطل التفاوت بين الناس وتسقط المحنة وتموت الخواطر كما أراد ابن قتيبة أن يقول، فحاشا له عز وجل أن يعمد إلى هذا التفاضل - ولو في مجال البيان وحده فيؤصل حواجزه ويقيم رواسخه! إنما جاء بالمتشابه في البيان أجمعه -لا في القرآن وحده- لأن هناك من المعاني ما لا تفصح عنها الألفاظ إلا بعبارة توهم الاشتراك، ثم يجيء السياق فيفسح مجال الأخذ والرد في تفضيل معنى على معنى مما تدل عليه هذه العبارة المشتركة، والقارئ اللامح النفاذ هو الذي يصل إلى المعنى المراد جازمًا بصحته في ضوء ما يعهد من الأساليب، وبهذا كان المتشابه واضحًا لدى الراسخين من ذوي العلم يعرفون وجهه ويكشفون