للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا كانت الاستعارة من أظهر وجوه المجاز فقد أفردها صاحب التأويل بفصل شاف محتشد الأمثلة حسن التوجيه مبينًا في مطلعه أن الاستعارة بعض سبيل العرب في الحديث ومستشهدًا بجيد المأثور في ذلك، وطريقته التحليلية لأساليب الاستعارة في القرآن مشرقة، كنا نود لو اكتفى بها فلم تتحول فيما بعد إلى اصطلاحات تذهب الرونق وتضائل اللألاء، استمع إن شئت إلى قوله (١):

"ومنه -من باب الاستعارة- قوله عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} أي كان كافرًا فهديناه وجعبنا له إيمانًا يهتدي به سبل الخير والنجاة، {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} أي في الكفر فاستعار الموت مكان الكفر، والحياة مكان الهداية، والنور مكان الإيمان" ومنه قوله عز وجل: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} أي إثمك وأصل الوزر ما حمله الإنسان على ظهره، قال الله عز وجل: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} أي أحمالًا من حليهم فشبه الإثم بالحمل فجعل مكانه، وقال في موضع آخر: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} يريد آثامهم.

ويبلغ المؤلف غاية الجودة حين يتبع لفظًا واحدًا من الألفاظ القرآنية ليرى كيف مضت به الاستعارة إلى شتى المعاني إذ لكل لفظ معناه الذي يهيئه له مكانه، ويحدد، سياقه ونضرب لذلك المثال من قوله (٢) ومن الاستعارة {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يعني جنته سماها رحمته لأن دخولهم إياها كان برحمته، ومثله قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ}.

وقد توضع الرحمة موضع المطر لأنه ينزل برحمته قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} يعني المطر، وقال {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ


(١) المشكل ص ١٠٦.
(٢) المشكل ص ١١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>