من الأنعام والطير والوحش عهد إليه عهدًا أمره فيه ونهاه، وحرّم عليه وأحل له فقبله، ولم يزل عاملًا به إلى أن حضرته الوفاة، فلما حضرته -صلى الله عليه وسلم- سأل الله أن يعلمه من يستخلف بعده، ويقلده من الأمانة ما قلده فأمره أن يعرض ذلك على السموات بالشرط الذي أخذ عليه من الثواب إن أطاع ومن العقاب إن عصى فأبين أن يقبلنه شفقًا من عقاب الله ثم أمره أن يعرض ذلك على الأرص والجبال فكلها أباه ثم أمره أن يعرضه على ولده، فعرضه عليه فقبله بالشرط ولم يتهيب ما تهيبته السماء والأرض والجبال".
فابن قتيبة لم يكتف بما اكتفى به ملتزمو وجهته من جعل العرض حقيقة قام بها المولى عز وجل مخاطبًا السموات. والأرض والجبال فأبين! بل ذهب إلى آخر الشوط فصدّق من قال أن القائم بالعرض آدم نفسه! مع أن صريح القرآن لا يدلّ على ذلك! ولو أن آدم خاطب السموات والأرض والجبال وردّت عليه لكان ذلك إحدى معجزاته الخارقة! وما رأينا من نسب لآدم عليه السلام أنه كلم السموات والأرض والجبال فردت عليه! أفيجوز لهذا الأديب المتمكن أن يتنازل وقتا ما عن حصافته البارعة! فيشتط في قبول تفسير لا تقوم عليه الشواهد، وأمامه اللسان العربي المبين يسعفه بوجه الرأي السافر لو احتكم إليه بعيدًا عن التشدّد الثقيل؟ لسنا نريد أن نلزم أحدًا برأي، ولكننا نحاول أن نتبين معالم الطريق! على أن مواضع إصابة المؤلف كثيرة متعددة لا تقاس بما يشذ بين السطور على أبعاد متنائية، وقد جعل المبالغة -كما هي في كثير من أحوالها- من بعض وجوه الاستعارة، ووفق في عرض أمثلة قرآنية تنطق بها مقرونة بما يماثلها من جيد الشعر والنثر، ولم يمنعه استحسانه برأي معين أن يذكر ما يخالفه منسوبًا إلى صاحبه، ولو أردنا أن نتوسع في الاستشهاد على ذلك لضاق بنا النطاق ولكننا نكتفي بهذا الشاهد.
قال تعالى:{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} فذكر المؤلف تبيينًا له (١):